«العاصفة» أرسلت إشارات اطمئنان إلى نضج تجارب مواهب مسرحية شابة في المسرح المحلي. تصوير: مصطفى قاسمي

«عاصـفة» فصيـحة على الخشـــبة

لم يُكن جمهور مهرجان دبي لمسرح الشباب في ليلته الثالثة مقتنعاً تماماً بأن العمل الذي يشاهده هو نتاج رؤية فنان شاب يمارس الإخراج المسرحي لأول مرة، واحتاجت القاعة إلى مساحة زمنية طويلة بعد العرض، لاستعادة هدوئها واكتمال عملية انصراف الحضور الذي اندفع العشرات منهم إلى الخشبة، للبحث عن المخرج الشاب حسن يوسف الذي فاجأ الجميع بـ«العاصفة»، معيداً كثيراً من ملامح النضج لعروض المهرجان، في وقت بدا كثير من عناصر المسرحية التي أنتجها مسرح الشباب للفنون، في حال تناغم وتعاون واضحين، من أجل نسج خيوط من التواصل بين الأحداث على الخشبة والجمهور خلفها، خصوصا في ما يتعلق بالأداء التمثيلي وعناصر الديكور والمؤثرات الصوتية.

عرض فصيح

المخرج حسن يوسف لفت انتباه المشاهدين والنقاد.

«العاصفة» التي كانت أقرب الأعمال الثمانية المشاركة في المهرجان إلى الاستبعاد، بسبب عدم نضج العرض ووجود مشكلات في تعامل ممثليها مع العربية الفصحى لغة العرض، تجاوزت كثيراً من إشكالات التمارين، واكتسبت مبدئياً انحياز المشاهدين لاعتمادها على الفصحى، وعلى خلاف السائد دائماً تحول مواجهة الجمهور للخشبة إلى عامل محفز على الإبداع، بدلاً من أن يكون مثار إرباك لممثلين اعتادوا التألق في البروفات وافتقاده في العروض الحية، ليكرر الفنان حسن يوسف إبداعاً كان حاضراً دائماً مع مختلف دورات مهرجان الشباب، منذ أن اعتمد نظام المفاضلة بين العروض في دورته الثانية التي حصل فيها على جائزة أفضل ممثل، ويصبح أداؤه المتميز عاملاً حاسماً في فوز «عنبر» بجائزة أفضل عمل متكامل، قبل أن يلعب الدور نفسه في الدورة الثالثة بالنسبة لمسرحية «المسرحية» التي فازت باللقب نفسه، رغم اعتمادها على أدائه ممثلاً وحيداً، ليصبح تحديد هوية العمل الفائز بلقب أفضل عمل متكامل في المهرجان مرتبطاً عملياً بمشاركة يوسف، لاسيما في حال نجاح «العاصفة» في إقناع لجنة التحكيم بالقدر نفسه الذي تكرر مع سابقتيها.

وبهدوء شديد لم يقطعه سوى مؤثرات صوتية موسيقية وحفيف أصوات عروق أشجار يابسة تتكسر، وأنفاس بشرية تعاني لسعات البرد القارس، وجد المشاهدون أنفسهم في قلب حدث محيل إلى بيئة ثلجية مظلمة وقاحلة، أقام عليها ثلاثة جنود مواقع لهم، وفي حين بدا أحدهم يقاوم حاله المزرية عبثاً بمزيد من إحكام التدثر في الظلام، ظهر ثانيهم غير مبالٍ وخاملاً، أما الثالث الذي كان أكثرهم تألماً من البرودة التي كست الموقع برداء الثلج الأبيض، فكان أكثرهم تفاعلاً مع آلام البرد، رغم لجوئه إلى تدفئة يديه من خلال إشعاله النيران بما تطاله يداه من فروع أشجار يابسة.

مرور دقائق من زمن المسرحية دون حوار كان شديد الدلالة في وقت الحراسة الليلية للجندي المنشغل بنيران التدفئة غير المجدية، قبل أن تتكشف التفاصيل عن واقع جنود تركوا أوطانهم للخدمة، ضمن ما تصوروا أنه قوات لحفظ السلام تم تكليفها بمهام حماية المدنيين من مسلحين معتدين، لكنهم أصبحوا منعزلين في معسكرهم معرضين للهلاك، إما بسبب غارات المعتدين أو عدم الوصول إلى موقعهم وإنقاذهم من الهلاك في تلك المنطقة النائية، بعدما انقطعت وسائل اتصالهم كافة بالعالم الخارجي، وأوشكت مؤنهم على النفاد، أو هبوب عاصفة ثلجية أشد قسوة من واقعهم ظل يُبشر بها أحدهم ويتلمس دنوها.

 «شبابية» بامتياز

نفى المشرف العام على العمل الفنان ناجي الحاي، تدخله في الرؤية الإخراجية للعمل، مضيفاً لـ«الإمارات اليوم» حول مراهنتهم على إمكانات فنان يقوم بعمله الإخراجي الأول: «الأهم في هوية الفنان الشاب الذي يختار الإخراج منفذه الإبداعي، امتلاكه الشخصية والنسق الفنيين اللذين يمكن تنميتهما من خلال تواتر الأعمال والخبرات، وهو ما يمتلكه حسن يوسف الذي يعد مشروع مخرج قادر على مفاجأة الساحة المحلية برؤى متجددة، في حال استمرار دعمه»، مشيراً إلى أن أسرة «العاصفة» تمتلك تألقاً أكبر مما ظهر على الخشبة، لافتاً بشكل خاص إلى مهمة المخرج المسرحي القدير محمود عباس مع الممثلين، في التغلب على إشكالات إجادة اللغة في وقت قصير للغاية.

وأكد الحاي، في السياق ذاته، عدم تدخله أو أي من المخرجين المخضرمين في الرؤية الإخراجية للمخرج الشاب حسن يوسف، مضيفاً «هذا خط أحمر يبقى تجاوزه معيقاً لنضج شخصية المخرج الشاب»، مشيراً إلى أن تجربة حسن يوسف في التمثيل سهلت له مهمته الإخراجية الأولى.

في المقابل فضل حسن يوسف عدم نعته بلقب المخرج، مضيفاً: «الكثير من الخبرات والدراسات مازالت تفصلني عن هذا المسمى الكبير، وما قمت به مجرد محاولة بدافع الرغبة في المشاركة في سياق آخر، بخلاف التمثيل الذي تكررت مشاركتي عبره في المهرجان»، موضحاً «أسعى إلى صقل تلك الإرهاصات الإخراجية بدراسات أكاديمية، فضلاً عن الاقتراب من تجارب المخضرمين خصوصا في الساحة المحلية التي تعد إحدى أهم البؤر الخليجية والعربية تألقاً على صعيد العمل الإخراجي».

وعلى الرغم من تشابه المعطيات الأساسية للشخصيات الثلاث إلا أن ملامح كل منها بدت نمطاً مغايراً، ومن خلال عدم منح الشخصيات أسماء، وإغفال الإشارة إلى زمان ومكان محددين تخلص المخرج من تفاصيل الإسقاط على قضية بعينها، وصولاً إلى تعميم يجعل المقولات والأحداث منسحبة على هم إنساني أكثر شمولية، رغم إشارة دالة مرت سريعاً بشأن هوية مفتعلي الفتن والحروب حينما نعتهم أحد الجنود منفعلاً بـ«الخنازير أبناء الخنازير»، مطلقا صرخة مسرحية من خلال المحتوى الدرامي للعمل، وهو ما تكرر أيضاً على لسان شخصياته وتساؤلات مهمومة حول تجرد دعاة القتل والتشريد والحروب من إنسانيتهم، ومآل الحروب والنزاعات المنتشرة التي لا تكتفي بسلب الأمن من طرفي النزاع فقط.

خيوط نفسية

تسليط الضوء على دواخل ضحايا حرب ليسوا هم طرفا النزاع المباشرين، والنفاذ إلى دواخل أكثر من مونولوج داخلي دفع الجمهور في سياق المعاناة بانفعال شديد، وهو الأمر الذي تعامل معه مصمم المؤثرات الصوتية جاسم محمد باقتدار شديد، لتتعاون الموسيقى في نسج مشهد يقول فيه أحد الثلاثة مناشداً محاربين لم يرهم «نحن بشر مثلكم، لدينا بيوت وأحلام وحياة نريد أن نعود إليها، نريد أن نعود إلى أوطاننا»، فيما يتذكر ثانيهم وعوده لزوجته بالعودة سريعاً مفتخراً بأداء مهمة إنسانية، قبل أن يكتشف أنه بمثابة قطعة دومينو تحركها حسابات أخرى، ورغم نجاح المخرج في نسج خيوط نفسية خفية بين الممثلين على الخشبة والجمهور، من خلال الاستقراء الداخلي للشخصيات من خلال تقنية المونولوج، إلا أن المبالغة في التأكيد على فضح كوامن شخصياته أوقعه في بعض الأحيان في سلبيات سيادة التقريرية والمباشرة، عبر سرد أفقد العمل الكثير من جماليات الحوار.

ذروة الأزمة كانت بقعة ضوء مبهرة في الفعل المسرحي، ففي الوقت الذي استبشر أكثر الجنود تشبثاً بوهم الخلاص، وأشدهم جزعاً من وطأة البرد بأوهام وصول قافلة إنقاذ مهيبة يرتدي جنودها اللباس الأبيض وكأنهم مدعوون إلى حفل زفاف، تفاجأ الجميع بأصوات غارة عسكرية نجح جاسم محمد في نقل آثارها الصوتية إلى قاعة العرض، ليداهم الخشبة بشكل مفزع رابع الجنود الذي ألمحوا إلى وجوده دون أن نشاهده سوى غارق ينزف من آثار بتر ساقه بفعل الغارة، في مشهد أجاده الجميع بدءاً من المخرج، مروراً بالممثلين والإضاءة والمؤثرات الصوتية، ونقلوا لنا مشهد جندي ينزف حتى الموت في ساحة معركة لا يُقاتل فيها أحداً، باستثناء سهو الجميع عن نصح الجندي المصاب بارتداء «نعل» في قدمه الأخرى غير المبتورة، لاسيما أن إصابته المفترضة قد لحقت به أثناء نوبة حراسته.

إضاءة

الإضاءة التي كانت حاضرة بحرفية حتى في حال توزع الفعل المسرحي على أكثر من بقعة في الوقت ذاته، والديكور والفضاء المسرحي، وحتى الإقناع الشديد في ملابس الجنود التي بدت بالية وحقائب أمتعـتهم، والنص الجيد لمؤلفه حميد فارس، والأهم الأداء الجيد للممثلين الذي كان من ضمنهم المؤلف أيضاً إلى جانب كل من نواف المطروشي وسالم طاهر وعمر الملا، كلها مفردات أجاد حسن يوسف استثمارها في الحدث، الذي تنامى لينتهي بتقوقع ثلاثتهم مستسلمين لهبوب «عاصفة ثلجية» مترافقة مع أصوات أزيز طائرات وهدير مدافع، قبل أن يكسو بياض الثلج الذي تناثر بهدوء أجسادهم، لتتحول الخشبة إلى كتلة بيضاء لم يحجب المشاهدون عنها سوى ستارة المسرح السوداء التي انسابت معلنة نهاية «العاصفة»، التي كانت إيذاناً بوابل تصفيق من جمهور أبى أن يحيي أسرة العمل إلا واقفاً، لينـخرط الجمـيع بعـدها في موجـة من التـهاني لم تسـتثن حـتى البعـيدين عن «العاصـفة»، ودعـم مسـرح الشـباب له، مستبشرين بجيل مسرحي شاب قادر على تجديد طاقات الخشبة المحلية.

 غياب فضائي

حضور قناة «سما دبي» الفضائية، ومداخلات المذيعة فاطمة الصقور في الندوة التطبيقية، حرض مديرها خالد بشير على التساؤل حول اختزال وجود الإعلام الفضائي في قناة «سما دبي»، التي تلقت على الأثر تساءل مدير الندوة التطبيقية خالد بشير عن أسباب عدم إغراء المهرجان سائر الفضائيات المحلية، فيما طالب الفنان محمد سعيد بمزيد من الفاعلية في المشاركة في ما يتعلق بالصحافيين خصوصا، أما الفنان عمر غباش الذي أبدى إعجابه بالمستوى الفني الناضج لـ«العاصفة» فقد أشار إلى ضرورة تحلي المبدعين الشباب بروح تقبل النقد بأشكاله كافة، وحسن استثماره من أجل مزيد من تجويد نتاجهم.

الصديق الأقرب إلى حسن يوسف في الوسط المسرحي الفنان مروان عبدالله، كان متحمساً في الدفاع عن «العاصفة»، ودافع عن عدم إجادة الممثلين اللغة العربية الفصحى على النحو الذي ينسجم مع إمكاناتهم وقدراتهم الأدائية، مضيفاً: «ورشنا ودوراتنا ومعظم نتاجات المسارح المحلية باللهجة الدارجة، وهناك صعوبة كبيرة في الوصول لسقف الإجادة في عمل وحيد، حتى في حال توافر مساحة زمنية كافية للتدريب».

فاطمة الصقور تجري مقابلة مع د.صلاح قاسم حول «العاصـفة» .

 

الأكثر مشاركة