العائلات الموريتانية في القرى الصحراوية تحتفظ بمعظم المخطوطات والوثائق. أرشيفية

«مكتبات الصحراء» في موريتانيا مهدّدة بالتلف

تزخر موريتانيا بموروث ثقافي كبير يعود تاريخه إلى مئات السنين، وتحتفظ المدن النائية بكنوز ثمينة تنتظر من يعيد اكتشافها ويعيد إليها اعتبارها. ولعل ما يحدث للمخطوطات العريقة في هذا البلد الصحراوي يعكس الواقع المتردي للثقافة في العالم العربي، إذ تشكو المكتبات القديمة من جفاء القراء والباحثين وإهمال المؤسسات المحلية والإقليمية، ففي شنقيط توجد مكتبات تحتوي عددا من المخطوطات والكتب التي تعود إلى القرن الخامس الميلادي، ويتم حفظها بطريقة بدائية تجعلها عرضة للتلف.

مدن وسط الرمال

تزهو المدن الأثرية الموريتانية بجمالها الأخاذ بفضل موقعها في قلب الصحراء الموريتانية. كما تشكل حواضر شنقيط ووادان وولاتة وتشيت، وجهة مفضلة للسياح الباحثين عن المعرفة والتاريخ. تأسست هذه المدن في القرن الثاني عشر وظلت صامدة على الرغم من موجات الرمال التي تحيط بها من كل مكان. وتضم هذه المدن في ثناياها ذاكرة جماعية تحكي قصة تاريخ مختلف المراحل، وكيف تألقت في قمة تطورها وكيف آلت الى التلاشي أو النسيان.

ويوجد في شنقيط الواقعة على هضبة أدرار، في وسط البلاد، مجموعة من أروع الكتب العربية والأمازيغية، التي يثمنها المختصون. إلا أن «مكتبات الصحراء» تلفظ أنفاسها الأخيرة هذه الأيام في ظل الإهمال المحلي واللامبالاة من الجانب العربي. وانشغلت موريتانيا، المعروفة ببلد المليون شاعر، بالهاجس الأمني وكرست كل جهودها في السنوات الأخيرة لمحاربة الجماعات المسلحة الخارجة على القانون، ما جعل الموروث الثقافي في البلاد عرضة للضياع والاندثار. وفي ذلك يعترف وزير الثقافة الموريتاني، سيسي شيخ ولد بواد، بأن «الثقافة لم تعد أولوية الحكومة في السنوات الأخيرة».

وتشير المعالم الأثرية في شنقيط إلى أن حضارة عريقة ازدهرت في هذا الركن المنسي من العالم، وربما كانت الأكثر تنوعا في القارة السمراء. ويقول عالم الآثار الفرنسي، روبرت فيرني، الذي أجرى أبحاثا في موريتانيا لمدة 20 عاماً، «هناك نحو 4000 موقع أثري في البلاد، لم يتم استغلال معظمها حتى الآن». ويصف بعض من زار شنقيط بأنها «جنة وسط رمال الصحراء».

موروث إنساني

تتناقل العائلات في القرى الموريتانية المخطوطات والكتب عن أسلافها منذ أكثر من خمسة قرون، وتتمركز أهمها في حواضر شنقيط ووادان وولاته و تشيت. وقد أدرجت هذه القرى ضمن الموروث الإنساني من منظمة الثقافة والعلوم «اليونسكو»، في .1996 وكانت هذه التجمعات الإنسانية، في الماضي على طريق الحجاج إلى مكة المكرمة، كما كانت نقاط استراحة للقوافل التي تعبر الصحراء الكبرى من موريتانيا في أقصى الغرب الإفريقي إلى السودان في الجانب الآخر من القارة، محملة بالتمر والذهب والملح. وكانت القرى الأربع تستقطب عددا كبيرا من السياح الأجانب، إلا أن تدهور الوضع الأمني جعل موريتانيا وجهة سياحية خطرة.

يقول مدير المعهد الموريتاني للأبحاث العلمية، جعيد ولد عبدي، «كانت المخطوطات القديمة المصدر الأول للقراء حتى فترة الاستعمار. وكان الناس يعتبرونها مرجعا علميا ودينيا وتاريخيا، وأحياناً يتم نسخ بعضها عند الحاجة»، مستدركاً «مع ظهور الحياة العصرية تراجعت قيمة هذه المخطوطات».

35 مشروعاً

تحاول الحكومة جذب مستثمرين أجانب إلى موريتانيا، وأعلنت عن عزمها إطلاق 35 مشروعا ثقافيا لترميم المواقع الأثرية، منها المكتبات. ويعمل المعهد الموريتاني، رغم قلة موارده، على تصنيف الكتب وتقييد عناوينها حسب مجالات تخصصها. وأسهم خبراء إيطاليون في إنشاء مختبر عصري لمعالجة المخطوطات بطريقة علمية وتنظيفها وحفظها. ويتعامل عمال المختبر مع المخطوطات بعناية وحرص شديدين، إذ توضع بعد معالجتها في أكياس بلاستيكية مفرغة من الأكسجين لمدة 21 يوماً، وهو الوقت الكافي للقضاء على البكتيريا الملتصقة بالمخطوطة. وتنتهي العملية بنسخ المخطوطة بالماسح الضوئي، ثم إعادتها إلى صاحبها في حاوية ورقية صممت خصوصاً لهذا الغرض.

ومهما يكن فإن جهود المعهد تبقى غير مجدية، فلم يتلق لحد الآن إلا 10٪ من عدد المخطوطات التي يزيد عددها على 33 ألف مخطوطة، وفق إحصاء وطني للمخطوطات القديمة أجري عام .1990 وتحتفظ العائلات الموريتانية في القرى الصحراوية بمعظم هذه الوثائق. وفي هذا السياق يقول ولد عبدي، «لقد حاولنا الحصول على المخطوطات بشتى الطرق. واقترحنا على أصحابها تعويضات مالية وتسجيل المخطوطات بأسمائهم لضمان ملكيتهم لها»، مضيفاً «لقد ورثناها عن أجدادنا، ولكن ما نقوم به الآن هو حفظها وليس المحافظة عليها». ولم يوافق الأهالي على اقتراح باحثين ألمان بتصوير المخطوطات ونسخها على أشرطة خاصة.

أجيال متعاقبة

على بعد 600 كيلومتر من العاصمة نواكشوط، تقع المدينة التاريخية شنقيط ، وتقطنها عائلة هابوت التي تمتلك مكتبة رائعة كأنها متحف أثري يضم نحو 1400 مخطوط تغطي 12 مجالاً مختلفاً، بما في ذلك علم القرآن والحديث وعلم الفلك والرياضيات والهندسة والنحو وغيرها. ويوجد ضمن المخطوطات كتاب يعود تاريخه إلى 482 هجرية (القرن السادس عشر ميلادي) ويحمل عنوان «عمق الحقائق في كتاب الله».

وتعاقبت أربعة أجيال على رعاية المكتبة العريقة منذ أسسها سيدي ولد محمد هابوت في القرن التاسع عشر، وقام هذا الأخير بجمع عدد كبير من المخطوطات أثناء رحلاته الكثيرة، بما في ذلك رحلته إلى مكة المكرمة على ظهر البعير، ليعود منها بكتب ومخطوطات ظلت محفوظة إلى اليوم في مكتبة العائلة.

ويقول أحد أحفاد هابوت إن أجداده تكبدوا العناء والمشقة لجلب هذه الكتب والمراجع التي أسهمت في فهم الإسلام وإرساء قواعده في هذا البلد النائي. أما ولد عبدي فيرى أنه نظراً لافتقار موريتانيا للموارد الطبيعية والأراضي الزراعية فقد أنشأت البلاد على مورد واحد هو «الثقافة».

وتشير المؤرخة الفرنسية أوديت دو بويغودو إلى أن «كل العلماء الذين عاشوا هنا كان لديهم مكتباتهم الخاصة». وتقول المؤرخة المتخصصة في دراسة شعوب الصحراء الكبرى ان الموريتانيين سواء الحجاج أو حاملي الرسائل، جلبوا معهم مخطوطات قيمة من شمال إفريقيا ومصر وسورية، وتمبكتو في مالي.

 

الأكثر مشاركة