«الرحلة الناصرية».. في حضرة أصل الجمال

رغم الاشتياق، وبُعد المسافة، لم يغفل رحالة قدامى قصدوا الحرمين الشريفين عن توثيق محطات سفرهم إلى خير البقاع، ليتركوا ما يشبه صورة كاملة، تدوّن ملامح تلك الأيام البعيدة التي كان يحتاج فيها الحاج إلى شهور طويلة كي يصل إلى الحجاز، فيؤدي الفريضة، وينعم برؤية البيت العتيق، ويزور طيبة «الحبيبة مسكن الحبيب»، على حد وصف صاحب «الرحلة الناصرية» قبل أكثر من 300 عام.

في يوم صادف 21 يوليو عام 1709، ترك أبوالعباس أحمد بن محمد بن ناصر الدرعي زاويته التي تولى مسؤولية مشيختها في تمكروت المغربية، وجعل منها بقعة نور تتزاحم عليها الوفود، من طلبة العلم وأهل المحبة، لينطلق إلى حيث المشاعر، مغتنماً بركة يوم الخميس بوجه خاص، وليدوّن ذلك الشيخ الصوفي كل ما يصادفه في رحلته، وقبل ذلك ما في روحه من توق وحنين لذلك المكان الطاهر، الذي يستحق كل تعب وتحمّل الكثير من المشاق من أجل بلوغه، ويكتب عن مشاهد لقاء مكة ووداعها، ودخول المدينة المنورة والخروج منها بعين باكية، مصوراً بعض ذلك بقوله: «وكانت إقامتنا (في المدينة)... وكأنها طيف منام، فتهيأ الرحيل ودنا، وكثر العويل من مفارقة مغنى المنا، ثم لما صلى الناس الجمعة بالحرم الشريف سادس المحرم، تحملوا وخرجت الأركاب، ولدمع كل مشوق على خده انسكاب، ولما حان وقت العصر... توجهت إلى الحضرة الشريفة فتوقفت اتجاهها، وجعلت الوسيلة إلى الله حرمتها وجاهها، ودنوت للوداع، وللقلب من ألم البين انصداع».

عين مفتوحة

لم يترك صاحب الرحلة الناصرية شيئاً إلا ووثّقه، تمتع بعين مفتوحة لأقصى مدى، ترنو إلى البعيد، حيث الحرمين الشريفين، لكنها لا تستطيع أن تنسى مشاهدات المحطات الأخرى في طرابلس والقاهرة والسويس وسواها، فتتوقف مثلاً في مدينة كالإسكندرية، واصفة أعاجيبها وتاريخها، راوية الكثير عن عمود السواري وملامح من آثار الثغر المصري، وأحاديثه منذ زمن البطالمة.

وحين يحطّ أبوالعباس، الذي كان يلقب بالخليفة، في المدينة المنورة، يفصّل الكثير عنها، لا يترك شيئاً إلا وسجله، وكأنه صانع فيلم وثائقي بلغة هذا العصر، يستخدم الكلمات بديلاً عن الكاميرا، فيصور مشاهد بالجملة، من أمام الروضة الشريفة، وحتى من يقومون على خدمتها، والفقهاء الذين يحظون بشرف الحديث في تلك الرحاب، ويتطرق الرجل كذلك إلى العادات والتقاليد، ومأكولات المدينة وفواكهها، والتي يصفها هنا صاحب هذه الرحلة الحجازية بأنها: «في غاية الجودة، خصوصاً عنبها ورطبها، وأما الخضر فأكثرها وجوداً: الجزر والباقلا والملوخية والبامية والبصل واللفت. والخضر البرية ليس بها إلا الخبيز، ولا يأكل أحد في تلك البلاد السمن القديم».

الحسن هنا يزداد

لا يرسم مؤلف تلك الرحلة لوحة للحرم النبوي الشريف، خلال موسم الحج فحسب، بل يصور كذلك مشهده بعد أن يفرغ من الزوار والحجاج، وبعد أن يخلص المكان الطاهر لأهل طيبة، والقائمين عليه، وعملية التنظيف التي كانوا يقومون بها، والمصابيح التي تُجلى حتى تصفو، لاسيما حينما يقترب المولد النبوي الشريف، إذ يصور أبوالعباس كل ذلك، متتبعاً مصادر جمال في المكان الجميل: «فقد اتفق أرباب الأذواق السليمة على أن كل شيء مستحسن في الدنيا يزداد حسناً في المدينة على حسنه الذي كان له قبل ذلك، وذلك لسر يدركه أهل البصائر بصفاء السرائر، وكيف لا وتلك حضرة مظهر أصل الجمال، ومنبع الكمال»، لتشدو في ظلال تلك الأنوار الصافية قصائد في مدح ساكن الروضة الشريفة، بأصوات حسنة رخيمة، وسط امتلاء المسجد بالناس الذين ينتظرون تلك الأيام بشكل خاص.

يشار إلى أن المحطات الرئيسة لتلك الرحلة هي: سجلماسة (المغرب)، وطرابلس وتاجوراء (ليبيا)، والقاهرة، ومكة المكرمة، والمدينة المنورة.

يذكر أن أبا العباس أحمد بن محمد بن ناصر الدرعي، ولد في سنة 1057 هجرية، ونشأ في أحضان أسرة اشتهرت بالعلم والتصوف في المغرب، وحج أربع مرات، أولها وهو في الـ19 من العمر، وتوفي في عام 1129 هجرية.

للإطلاع على الموضوع كاملا يرجى الضغط على هذا الرابط.

الأكثر مشاركة