«سلطان العاشقين».. حب عابر لحدود وادي المستضعفين

عاش مرتلاً أناشيد روحية، تعبّر عن حبه الذي تمزج رموزه بين عالمين، حتى حار الناس فيه، وترددوا في الحكم عليه، يقرأ البعض ديوانه على أنه يتغنّى بحب إنساني، بينما يراه آخرون وجداً بمحبوب أسمى هام به ذلك الملقب بـ«سلطان العاشقين».. ابن الفارض، الشاعر الصوفي، صاحب الأحوال، والشعور المرهف، والديوان الصغير حجماً، الفياض بالمعاني والرموز والجمال.

عنت وغموض

تأتي مقدمة «ابن الفارض والحب الإلهي» بقلم الشيخ مصطفى عبدالرازق الذي يؤكد أن المتصوفة «من قديم الدهر لقيت عنتاً شديداً، وذلك من جراء غموض ألفاظهم وإشاراتهم، وما توهمه ظواهرها من الضلال والزيغ، ولقد اضطر ابن عربي لكي يضمن لنفسه بعض السلامة أن يضع شرحاً لديوانه (ترجمان الأشواق) يبين فيه مقاصد كلامه ومراميه، ويظهر ما خفي من معانيه».

ويضيف ابن الفارض الصوفي المصري «هو الشاعر الذي فتن بجمال مصر واستهوته مغانيها وربوعها، وكان لجبل المقطم ووادي المستضعفين من الأثر البالغ في نفسه ما منحه بحق لقب سلطان العاشقين».

576

هجرية العام الذي وُلد فيه ابن الفارض الذي رحل في عام 632.

ذاعت قصائد ابن الفارض، فعطّرت جلسات الذكر، واستعان بها المنشدون الكبار في مصر وسواها من البلدان، وتجاوز شعر ذلك «السلطان» الحدود إلى جهات أخرى في هذا العالم، فترجم إلى لغات مختلفة، رغم رموزه وصوره المركبة ومحسناته، وكذلك أجريت بحوث بلا حصر حول القصائد وصاحبها الذي كان «من أصحاب النفوس التي خُلقت عاشقة بطبعها، منجذبة إلى كل جمال بفطرتها».

ولد ابن الفارض، واسمه عمر بن أبي الحسن علي بن المرشد بن علي (576 - 632) لأب حموي الأصل «كان من أكابر أهل العلم والعمل، اتخذ زهده وورعه صورة عملية في آخر حياته حين نزل عن الحكم ورفض منصب قاضي القضاة، واعتزل الناس وانقطع إلى الله في قاعة الخطابة بالأزهر إلى أن قضى».

طريق العارفين

على درب الأب سار الابن، لكنه تقدم خطوات، سلك طريق العارفين، وانقطع إلى السياحة في وادي المستضعفين بجبل المقطم في مصر، ورحل إلى الحجاز، قضى 15 عاماً في أودية مكة، منقطعاً عن الناس، لا يتصل بهم إلا حين كان يأتي إلى الحرم الشريف مطوّفاً به، كما يروي الدكتور محمد مصطفى حلمي في كتابه عن ابن الفارض.

وفي تلك الرحاب المباركة، نظم الشاعر قصائد حافلة بالصور الحجازية، ولم ينقطع الحنين إلى تلك الأمكنة، حتى بعد أن عاد ذلك الصوفي إلى مصر، قبل وفاته بسنوات، ومن الأبيات التي تصور ذلك الحنين:

يا أهل ودي هل لراجي وصلكم.. طمع فينعم باله استرواحا

مذ غبتم عن ناظري لي أنّة.. ملأت نواحي أرض مصر نواحا

وإذا ذكرتكم أميل كأنني.. من طيب ذكركم سقيت الراحا

وإذا دعيت إلى تناسي عهدكم.. ألفيت أحشائي بذاك شحاحا

ومما يروى عن ابن الفارض أن الملك الكامل أوفد إليه كاتب سره ومعه 1000 دينار، لكن أبى قبولها الشاعر، ورفض الذهاب إلى الملك، ما دعا الكامل إلى زيارته ومعه جماعة من خواص الأمراء في الأزهر «لكن ابن الفارض لم يكد يحس قدومهم حتى خرج من الباب الآخر الذي بظاهر الجامع، وسافر إلى ثغر الإسكندرية، وأقام فيها أياماً، ثم عاد إلى الجامع الأزهر متوعكاً، فلما بلغ الملك نبأ توعكه أرسل إليه يستأذنه في أن يجهز له ضريحاً عند قبر أمه بقبة الإمام الشافعي، فلم يأذن له».

رغم اختلاف المؤرخين في تحديد مولد ابن الفارض إلا أنهم يتفقون على تاريخ رحيله، في الثاني من جمادى الأولى سنة 632 هجرية، وأنه دفن باليوم التالي «بالقرافة بسفح الجبل عند مجرى السيل»، وأن الناس كانوا يتهافتون على حمل نعشه.

حكاية المسجد

ظل قبر الرجل زمناً طويلاً على حاله، حتى من دون حاجز، إلى أن وقف عليه أحد الأثرياء المريدين في سنة 860 هجرية خادماً، وبني له مسجد بعد ذلك «أما المسجد الحالي فقد أنشأته الأميرة جميلة فضيلة هانم كريمة الخديوي إسماعيل سنة 1307 هـ (1889 م) وأنشأت بجواره قبة كبيرة، دفن فيها ابنها الأمير إبراهيم جمال الدين المتوفى سنة 1305 هـ. وفي هذا المسجد أربعة أعمدة.. وقد أقيمت فيه حول ضريح ابن الفارض مقصورة ذات أربعة أضلاع، ثلاثة منها من الحديد والخشب، وضلعها الرابع أحد جدران المسجد، وبه نافذة تطل على فنائه الخارجي، وقد غرست خارج المسجد أشجار وأزهار».

ويعلق الدكتور محمد مصطفى حلمي على ذلك قائلاً: «وكأني بها والنسيم يداعبها قد هيأت للشاعر العاشق أن تحيا روحه في ظل الجمال الذي فاضت نفسه بحبه، وقضى حياته هاتفاً به مرتلاً أنشودته، وهكذا أتاحت الأميرة جميلة لابن الفارض مقراً جميلاً ترفرف عليه أجنحة الطبيعة الوادعة، وتنعم فيه روحه بما كانت تصبو إليه من سعادة وطمأنينة وسكينة، وليس من شك في أن هذه العناية التي وجهت إلى قبر شاعرنا إنما تظهرنا على أن أصحاب المواجيد والأذواق من شعراء الصوفية، لن يعدموا من يقدرهم أمواتاً، كما أنهم لم يحرموا من كان يشجعهم ويجلهم أحياء». يشار إلى أن كتاب «ابن الفارض والحب الإلهي» كان في الأصل رسالة علمية، حاز عنها صاحبها محمد مصطفى حلمي درجة الدكتوراه من كلية الآداب جامعة القاهرة، في يوم السبت الثاني من مارس سنة 1940، بعد مناقشة لجنة تضم قامات: مصطفى عبدالرازق، أحمد أمين، طه حسين، وبول كراوس. وطبع الكتاب في دار المعارف في مطلع الثمانينات في 422 صفحة.

الأكثر مشاركة