«باني سنغافورة».. حكاية رجل «الجزيرة»
حكاية جزيرة ورجل، جزيرة تحولت إلى دولة، ورجل غير عادي حقق أشياء مستحيلة؛ حتى صارت مسيرته نموذجاً يحتذى، قالت عنه «المرأة الحديدية» مارغريت تاتشر: «عندما كنت في السلطة قرأت وحللت كل خطبة من خطبه»، ووصفه زعيم آخر بأنه «رجل عبقري» نهض بمدينة صغيرة، وانتشلها من محيطها العاصف، ليجعلها في غضون سنوات واحة متطورة.. إنه «باني سنغافورة» لي كوان يو الذي رحل أخيراً.
يهدي لي كوان مذكراته، التي تقترب من 700 صفحة «إلى زوجتي وشريكتي تشو»، تلك السيدة التي عرفها مبكراً، وتزوجها مرتين: مرة سراً في لندن حينما كانا معاً يدرسان هناك، وثانية حينما عادا إلى جزيرتهما. تعود المذكرات إلى الميلاد في عام 1923، وتخير الاسم لي كوان يو (يعني النور واللمعان)، ولكن إعجاب الجد بالبريطانيين جعله يضيف هاري إلى الاسم. بألعاب الصغار تعلّق الطفل لي كوان؛ وزرعت فيه الطائرات الورقية روح القتال والرغبة في الانتصار.
يفصّل صاحب المذكرات يومياته، وأحوال جزيرته، خلال فترة الاحتلال الياباني عام 1942، واصفاً المآسي التي شهدتها خلال تلك الفترة (أكثر من ثلاث سنوات)، وفي ما يبدو حكماً قاسياً؛ يرى لي كوان يو أنه لم يكن هناك مناص من القنبلتين الذريتين اللتين ألقيتا على هيروشيما ونجازاكي، كي يعلن الإمبراطور الياباني الاستسلام وتنتهي الحرب ومجازرها بـ«مجزرة نووية».
بعد انقطاع عن الدراسة بسبب الاحتلال، يعود الشاب المتفوق الذي اعتاد المركز الأول إلى الدراسة؛ ويذهب إلى لندن، ويستقر في جامعة كمبريدج، وكالعادة كان الأول، وأنهى دراسة الحقوق، مستفيداً من لندن أشياء أخرى غير شهادة المحاماة: «رأيت إنجلترا قد روعتها الحرب، ولكن شعبها لم يهزم جراء ما لاقاه من خسائر ومعاناة، ولم يصب بالغطرسة والغرور بالنصر الذي حققه، فكل قنبلة سقطت على لندن قد نظف مكانها وأزيح الركام جانباً، وغالباً ما كانت تنمو الزهور جانباً لتخفف من آلام الخرائب».
عاد لي كوان يو مقتنعاً بأن «أي بلد يحتاج إلى ما هو أكثر من وجود أناس فخورين وذوي قدرة في القمة كي تتغير الأمور، الشعب كله يجب أن يتحلى باحترام الذات والرغبة في النضال، لتحقيق أمة قائمة بذاتها».
دافع المحامي الشاب بعد سنة التدريب في بلده عن حقوق عمال وحصل لهم على مكاسب، وأطلق مع آخرين «حزب العمل الشعبي» عام 1954، وفي غضون سنوات قليلة وصل في سن الـ35 إلى رأس السلطة، وكوّن مع حزبه الناشئ الحكومة، وكانت كلمته الأولى لشعبه: «الأشياء الجيدة في الحياة لا تهبط من السماء، وإنما تأتي بجهودنا على مدى طويل، الحكومة لا تستطيع أن تعطي نتائج إلا إذا ساندها الشعب، واستمر في العمل معها». نزل أعضاء الحزب إلى الشوارع والشواطئ لتنظيفها، وعملوا على تحرير المرأة ومساواتها مع الرجل، كي تشارك في تنمية الجزيرة. اصطدم «باني سنغافورة» بتحديات بالجملة، منها البحث عن سبيل لاستقلال الجزيرة مرة عن التاج البريطاني، وأخرى عن الاتحاد الماليزي، وأن تنأى بنفسها عن صراعات منطقة ملتهبة، والتحدي الأكبر كان صهر المزيج العرقي لسنغافورة، إذ إن الجزيرة مكونة من خليط: مهاجرون من الصين والهند وماليزيا وإندونيسيا ودول آسيوية أخرى؛ وكان مطلوباً من لي كوان يو، ومن معه، أن يجعلوها «قابلة للحياة» ليخلقوا دولة ذات سيادة؛ خصوصاً بعد صباح الاستقلال في التاسع من أغسطس عام 1965.
لا تغيب أسماء عربية عن المذكرات؛ يأتي على رأسها الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، الذي كان يقدره لي كوان يو، إذ حاول أن يحظى بتأييد «ناصر» كما كان يصفه، بل وطلب منه «إرسال خبير في بناء قوة دفاع جوي». كما يحكي عن لقاء أول بعبدالناصر عام 1962؛ إذ زار القاهرة خمسة أيام: «كان المصريون يفرشون لي السجاد الأحمر، ودعيت إلى زيارة القاهرة ثانية في أي وقت.. وقال عبدالناصر إنها زيارة شخصية فقد أحببت الرجل وأحببت ابتسامته وأسلوب حياته البسيط، ورغبته الشديدة في تغيير كل ما هو سيئ وفاسد في أيام حكم فاروق، وقع ناصر مذكرة مشتركة معي، مخترقاً بذلك الأعراف الدبلوماسية لأن سنغافورة لم تكن بلداً مستقلاً». مذكرات لي كوان يو كانت محل احتفاء من زعماء حول العالم، مثل مارغريت تاتشر وغيرها، إذ اعترفوا بأنهم دققوا في كل كلمة فيها، ليستفيدوا من «رجل عبقري»، عرف «الطرق القصيرة نحو التقدم» على حد تعبير الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، الذي قال: «أن تنهض أمة من عتبة الوجود إلى واحد من أعلى مستويات المعيشة في العالم في 30 سنة ليس بالإنجاز العادي، أساس النجاح يكمن في عبقرية رجل واحد، هو لي كوان يو».
للإطلاع على الموضوع كاملا يرجى الضغط على هذا الرابط.