أنسي الحاج.. كتب على هواه حتى الوداع
واجه أنسي بجمله العارية حملات مدججة بتراث من الكلاسيكيات، والتهم الموزونة المقفاة، وخاض معارك كي يقنع البعض بأنه ورفاقه لا يعادون وزناً ولا قافية، بل يبحثون عن مختلف، يكسر نمطية المؤتلف..
«كتب على هواه»، دافع عن «المخلوق الدخيل»، الذي مازال ينافح لينال شرعية الحياة، وشهادة ميلاد يستكثر عليها حرّاس «الأوزان الخليلية»، وسدنة القوافي الساكنة المقيدة.. إنه الشاعر أنسي الحاج الذي غاب في 18 من الشهر الجاري، عن 77 عاماً، قضى معظمها رافعاً راية تمرد، بدأت بـ«لن»، ولم تختتم بـ«خواتم».
ارتبط اسم الراحل بـ«قصيدة النثر»، هو وقريناه المؤسسان أدونيس ومحمد الماغوط، لم تهدأ المعارك حولهم ولا حول «جديدهم» الذي يضرب في الأساس، ويقترح شكلاً جديداً، ولغة لا تشبه اللغة التي يحدها الصدر والعجز والبيت، أو حتى السطر الشعري والتفاعيل القديمة والحديثة، لم يلتفتوا لوصم ما يكتبون بـ«القصيدة الخرساء» على حد وصف واحد من أبرز شعراء التفعيلة، وهو أحمد عبدالمعطي حجازي، ناهيك عن آخرين تخصصوا لنزع صفة الشعرية عن كل ما ينتمي إلى ذلك اللون، متهمين عرابيّه بأنهم ينسخون تجارب بودلير، ويكررون كلمات سوزان برنار وسواه من الكتاب الغربيين.
دافع أنسي الحاج (1937 ــ 2014) عن قصيدته «المخلوق الدخيل»، مؤكداً قيمة الحرية والانطلاق والتمرد، وكانت لفظة الحرية آخر ما اختتم بها ديوانه الأول «لن» (1960).
واجه بجمله البسيطة العميقة العارية حملات مدججة بتراث طويل من الكلاسيكيات، والتهم الموزونة المقفاة، خاض معارك طويلة كي يقنع البعض بأنه ورفاقه لا يعادون وزناً ولا قافية ولا حتى الأغنيات، بل يبحثون عن شيء مختلف، يكسر نمطية المؤتلف والنغمة الواحدة منذ قرون: «نرجو ألا تكون حدوداً ولا قيوداً، ونؤمن إيماناً راسخاً بأن إيقاعات جديدة ستظل تطل في تجارب جديدة ومعها احتمال أوزان جديدة. وهذا هو الهدف من بحر النثر، أن يكون بلا حدود ولا نهاية، وأن يظل حقل الحقول الذي كلما وطئتْه قدمٌ أحست أنها تمشي على غابة عذراء».
لم يخش أنسي الحاج خلو ساحة فنه الأثير من أدعياء «يختبئون وراء مسمى قصيدة النثر أو الشعر المرسل، لصفّ الكلام وطلاء العقم تارة بالفراغ المنقّط وطوراً بإنشائيات سقيمة تعمّق الهوّة بين القارئ والشعر، والشعر منها براء». أكد «توسيع الحدود» الإبداعية، وانقلابه هو و«الآباء المؤسسون» لقصيدة النثر، عربياً، مثل أدونيس والماغوط والخال، انقلبوا على ما كتبوا، لكي لا يصيب التكلس سطورهم الباحثة عن حرية ممتدة، مضيفاً في مؤتمر قصيدة النثر بالجامعة الأميركية في بيروت عام 2006: «يؤخذ علينا، أنا وسواي من المؤسسين، أننا حددنا شروطاً ومواصفات لقصيدة النثر عدنا، أنا وسواي، وخرقنا العديد منها. من ذلك حجم القصيدة. قلنا بالقصيرة، ثم اكتشفنا بالممارسة ألا ضير في الطويلة، حتى لو تنافرت، حين تدعوها تجربتها إلى الإفاضة، أو حين يجرفها سيلها فيمنعها من الانحصار في ساقية تحت طائلة التشويه. وغيرها قليل، خيانات ارتكبناها، أنا وسواي، ولكنها خيانات من نوع الشذوذ المثبّت للقاعدة، بل من نوع توسيع الحدود. لم نفرّط في مفاهيم القصيدة، بل طوّرناها وجعلناها أرحب مما أريد لها في القرن الـ19 الأوروبي والأميركي يوم كانت مجرّد رفيقة صغيرة فقيرة لصاحبة الجلالة قصيدة الوزن».
عندما قامت الحرب الأهلية في لبنان، انكفأ على ذاته، وترك الساحة، رأى بأنه لم تعد هناك صحافة، في زمن القتل على الهوية، وعدم استطاعة الجريدة اختراق الحواجز التي تقسم لبنان، وتفتش الرائح والغادي. في الأزمة السورية، لم يكتب إلا قليلاً، انتظر مثل كثيرين حتى يعلم ماذا هناك، أعلن أنه مع الضحايا، أياً كانوا، ما لم يرق للبعض. مقاله الأول نشر وهو طفل، متذرعاً باسم أبيه لويس الحاج الذي كان يعمل صحافياً ومترجماً ووصل إلى إدارة جريدة «النهار»، لكنه رفض أن يبدأ مسيرته الصحافية في جلباب أبيه، فانطلق من فضاء آخر (جريدة «الحياة»، وكانت له مجموعة من القصص الأولى التي نشرها في بداياته، وهوعلى مقاعد الدراسة في مرحلة التعليم الثانوي. وكما بدأ الإبداع والنشر مبكراً، ارتبط الراحل أنسي الحاج بزوجته ليلى ضو وهو في الـ18، حتى ودعها في عام 2005، بعد معاناة مع السرطان، ذلك «الخبيث» الذي اختطف الحاج أيضاً. كما ترجم مبدع «الرأس المقطوع» و«الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع»، و«ماضي الأيام الآتية»، مسرحيات لشكسبير ودورنمات وكامو وبريخت، ومثلتها نضال الأشقر وشكيب خوري وآخرون.