الرواية حرصت على توظيف أحداث ثورة 25 يناير. أ.ف.ب

«رحلات ابن البيطار» تشتبك بالماضي والحاضر

من يملك السيف، ينصّب البابا على كرسيه، ويصنع الخليفة.. هكذا الحال في تاريخ تشتبك معه رواية «رحلات ابن البيطار» للكاتب علي بريشة، إذ تدخل في جدل «جمالي» مع ماضٍ تستدعيه وتتخيله، تمزج بين الأمس واليوم، فما أشبه هموم الليلة بالبارحة، وما أكثر شاهري السيوف المتاجرين بالكلمات، وما أكثر أيضاً السالكين المسالمين الذين يدفعون الثمن.

إلى وجهات زمانية ومكانية عدة، يرتحل هذه المرة، صاحب «مدينة الشمس»، يجمع في «رحلات ابن البيطار» الصادرة حديثاً عن دار صفصافة في القاهرة، بين الشرق والغرب، يضفر أحداثاً من أزمنة مختلفة، ينطلق من إسكندرية «جمعة الغضب»، إلى الشام التي تنتقم منها همجية تتر العصور الوسطى، وبين المكانين والزمانين المتباعدين، ثمة هاربان يحاولان النجاة، والتقاط الأنفاس، ابن البيطار من التتار وسيوف الهمج، ودانيال محمد عبدالرازق، أستاذ المصريات القديمة، من نظرات متعصبة تفتش عن اسمه الذي يشي بأكثر من شيء، وينتمي إلى أكثر من دين، على الأقل ظاهرياً، لمن لا يعلم بحكاية صاحبه.

أنساق

حاولت «رحلات ابن البيطار» أن تعبّر عن كل مرحلة سردية انتمت إليها، فثمة أنساق مختلفة، وألسنة تنتمي لأزمنة عدة، تجمع بين ثقافات مختلفة، إسلامية وقبطية، شرقية وغربية، تتلاقى جميعها في نسيج روائي واحد غزل خيوطه علي بريشة في «رحلات ابن البيطار».

إصدارات

علي بريشة، كاتب وإعلامي مصري، من إصداراته:

• «كلام جرايد» (مجموعة قصصية).

• كتاب «صناعة الموت».

• «مدينة الشمس» (رواية).

تحط «رحلات ابن البيطار» التي تقع في 196 صفحة، في مدن عدة، لكن يبقى حنينها لـ«أول منزل»، لا تغيب الإسكندرية وظلالها عن أجوائها، سواء أكان فيها بطل الحكاية دانيال، أم غائباً عنها في أسفاره الدائمة، تظل مغناطيساً يجتذب روحه، تحيله إلى شاعر هائم، وهو يصفها لفتاته الإيطالية ذات الأصول اليابانية (ماريا، ويلاحظ مدلول الاسم وتماسه مع أن إسكندرية ماريا وترابها زعفران)، تستحيل اللغة إلى لوحات شاعرية خالصة وهي تتحدث عن تاريخ المدينة، وتتنقل برشاقة بين ماضيها وحاضرها، وفسيفسائها البشرية منذ القدم، وإن كان ذلك لم يخلُ أحياناً من نبرة تيه بالمكان، وتعاليه على ما سواه.

يحضر الواقع بقوة، وبقسوة أحياناً، في «رحلات ابن البيطار»، تهتم بالتسجيل، وتمجيد شهداء من أزمنة مختلفة، تستدعي رفاق ثورة لم تتم في مطلع السبعينات في مصر، أهملتهم أقلام المؤرخين، ولم تخلدهم ربما سوى قصيدة يتيمة، تحولت إلى أيقونة، وهي «الكعكة الحجرية» للراحل أمل دنقل، وإن أتت عليها بعض الأقلام الروائية بشكل عابر. لا يخفي علي بريشة، تحيّزه لشخصيات بعينها، ينصفها بشكل ما حتى ولو أتى ذلك على حسابات أخرى، ويبدو مسترسلاً في هذا، وحريصاً على تسريب أسماء كان لها فضل ما في التغيير، وتوظيفها في السياق العام للرواية.

يكمن التحدي في الرواية التي توظف أحداثاً بعضها مستمد من التاريخ، في تضفير الماضي بالحاضر، وهدم الجسور الزمانية، ليجد القارئ نفسه أمام شخصيات عتيقة عاشت منذ زمن تنطق بهموم اليوم، فهي تتحدث عن أحلامها القديمة، وكأنها ابنة هذا العصر، وهذا ما يستشعره غالباً قارئ «رحلات ابن البيطار»، فثمة أناس يمتلكون القوة ويجيشون الجماهير، ويقتلون باسم الدين، ويرمون من يشاؤون بتهم الهرطقة أو الزندقة، ولعل هذا ما جعل الروائي علي بريشة يقدم خاتمة «رحلات ابن البيطار» لتكون هي البداية، ولتتوالى الأحداث بعد ذلك، وثمة مصير كشف عنه منذ الصفحة الأولى، اقتيد إليه غريب ما في زمن ما.

ومن أجواء الرواية «ليس للعمر ثمن.. العمر أغلى من أن يقدره المال أو الجاه.. كذلك الحرية والضمير.. نحن ننبش قبوراً قديمة، نمسح أطنان الرمال بفرشاة أسنان حتى نزيل التراب عن كلمة قيلت في يوم ما، ولم يسمعها أحد.. لا شيء يضيع هباءً حتى لو دفنته السنون وقهرته الجبال ونكل به الظالمون.. لا شيء في هذه الدنيا كلها يساوي كلمة حق ينطق بها ضمير حر عندما تأتي لحظة الاختيار. لم يحمل الزاحفون إلى ميدان التحرير منذ 18 يوماً فرشاة أسنان يمسحون بها التراب عن آثار القدماء.. لم يعرفوا أصلاً مواضع الدماء التي سالت من قبل ليسقوها بدمائهم.. لم يجدوا كعكة حجرية يتشبثون بها.. وبالتأكيد لم يعلم الغالبية الساحقة منهم أنهم يقومون بإحياء طقس غابر تمت إزالته قسراً من روزنامة الأيام، ولكنهم اختاروا، وياللعجب ميدان التحرير و25 يناير؛ ليكون أيقونتهم ورمز انتصارهم.. الزمان والمكان يتكرر، أكملوا الميقات حتى منتهاه.. طافوا بالجنبات ورجموا الجند بالأناشيد.. قدموا الأضاحي واحتضنوا الشهداء».

الأكثر مشاركة