بحر «صور» بداية الحكاية في «مذكرات امرأة شيعية». أرشيفية

«مـذكــرات شيعيـة».. تتمرد على ضفاف الحكي

بلا ضفاف، تبدو «مذكرات امرأة شيعية»، إذ ترى صـاحبتها، الروائية رجاء نعمة، أن الاسـتذكار حرية، وانطلاق يتمرد على التقييد، وترفض الكاتبة اللبنانية أن تكون المذكرات مجرد سيرة روائية، أو سرد لمحـطات حياتية، تبدأ بالميلاد ومراحل العيش هنا وهناك، والحكي المألـوف عن أحبة رحلوا، وأناس تركوا في الروح جروحا، ووطن يضم نحو ‬17 طائفة.

أعمال

رجاء نعمة روائية لبنانية، تحمل شهادة دكتوراه في الأدب، تابعت دراستها وحازت على ليسانس في تاريخ من الجامعة اللبنانية في بيروت عام ‬1968. كما حازت الدكتوراه من جامعة السوربون عام ‬1984 عن دراستها «مأزق الحداثة» في أدب الروائي السـوادني الراحل الطيب صالح، وهي دكتوراه في التحليل النفسي للأدب.

نشرت رجاء نعمة عددا من الروايات في لبنان ومصر، وعددا من الأبحاث في التحليل النفسي للأدب. ومن رواياتها: «طرف الخيط»، و«الصورة في الحلم»، و«مريم النور»، و«حرير صاخب»، و«فراس وأحلام المدينة»، و«هل رأيتم وردة»، و«كانت المدن ملونة»، و«وردة شاه».

إضافة الى لبنان عاشت سنوات طويلة للدراسة في فرنسا، وللعمل في عدد من البلدان العربية، منها مصر واليمن قبل ان تنتقل مؤخرا الى الولايات المتحدة الأميركية.

تنطـلق «مذكـرات امرأة شيعية» التي صدرت حديثاً عن شركة المطبوعات للتـوزيع والنشر في بيروت، إلى ماض غير منقطع عن الحاضر، ماض يتصل بالحاضر ــ وأيضاً المستقبل ــ ويؤثر في مساراته، تذهب رجاء نعمة إلى منطقة أثيرة لديها، ولجتها تاريخياً من قبـل في أعمالهـا الروائـية، إذ تعود إلى فترة من فترات الحكم العثماني في المنطقة، ونمط الحياة قبل أكثر من قرن، ولا يبدو ذلك بعيداً عن المذكرات.

«مذكرات امرأة شيعية» عنوان يبوح منذ البداية بشيء ما، يعلن هوية قد تجتذب قارئاً ما، لكنها في المقابل قد تحفز قارئاً آخر على أخذ موقف من المذكرات ربما قبل قراءتها، وكأن الكاتبة تنبّه متلقيها من البداية، تحرره من الدخول إلى عالمها الذي اختلطت معالمه بتواريخ وأحداث، صغيرة وكبيرة، تسرد له عن العائلة التي نشأت بين أفرادها، فيما فكرت وهي صغيرة، تحديدا عن كلمة «شيعية»، تحكي رجاء نعمة تفاصيل الحياة التي لا تختلف كثيراً عن غيرها، لجوء آخرين على غير الملة والدين إلى الجد، ونصرة الأخير لهم، ونمط الحياة المشترك، والمحبة التي غلفت سنوات ما قبل التهاب ورم الطائفية في لبنان، واحترام عقائد الآخر، وتنشئة الصغار على ذلك، تفصّل الحديث عن مدارس الراهبات، وجمعها فتيات من شتى الأديان، وغيرها من اللفتات التي توقفت عندها صاحبة «مذكرات امرأة شيعية».

فضاءات

ثمة في المذكرات عائلة «شيعية» تنتقل من منطقة إلى أخرى، وتستقر في مدينة «صور»، يؤخذ أحد أبنائها إلى التجنيد الإجباري (والد صاحبة المذكرات)، لكنه بعد حين يهرب، وينضم إلى أحد المتمردين، وبعدها يهرب بعيداً، إلى أميركا، حالماً بأن يكون سبباً في عودة «أخ ضال» إلى حضن أمه.

تتنقل «مذكرات امرأة شيعية» في فضاءات زمانية ومكانية عدة: ماضي لبنان وحاضرها، وكذلك فلسطين ما قبل النكبة، وما بعدها، تفصل الحكي عن شكل المنطقة قديما، والحدود المفتوحة، والجد والأب اللذين كانا يتاجران ما بين صور وعكا. كما تحضر في المذكرات هموم فلسطينية، ومآسي ما بعد النكبة، والجرح النازف من قبل ‬1948، ربما إلى العام الذي شهد وعد بلفور.

ولأن رجاء نعمة روائية، فهي مشغولة بالتفاصيل الصغيرة، والمنمنمات الإنسانية التي لا تغيب عن المذكرات، إذ أثرت الكاتبة صفحات كتابها بالكثير منها: معتقدات وأساطير وطقوس شعبية، تمثل جزءاً ربما يكون مسكوتاً عنه، ولا يعطيه البعض انتباها، تسجل رجاء نعمة بعضها، بعفوية، في المذكرات، كما تسجل قصصاً موروثة عن نساء المكان، «صور» تحديداً، وتوثقها داخل كتابها الذي يقع في ‬415 صفحة.

كما تعرض الكاتبة يوميات من الطفولة والمراهقة، كيفية تكون وعيها، وتعلقها بالحرف، تحكي في فصل خاص عن زميلات المدرسة، وثيابهن، وكيفية تعاملهن مع بعضهن، وكذلك قصص عشقهن الأولى، وبدايات التعرف إلى الآخر. وللمرأة حيز كبير من المذكرات، طفلة ومراهقة وشابة وأماً وجدة، متمردة على الحال أحياناً، ومتوائمة معه أحياناً أخرى.

دراما العم

إذ كان للكاتبة عم ترك العائلة ومدينة صور كلها، وهاجر الى أميركا، ولم يكن ذلك الحدث إلا بعد قصة درامية بخيوط متشابكة، فذلك العم ارتبط بفتاة على غير دينه، وأقنعها بالهرب معه، والزواج بعيداً عن العائلتين، لكن لم يتم الهرب، إذ عرفت القصة، ووقعت مشاحنات بين جد صاحبة المذكرات وعمها، ما دفع الأخير إلى الهجرة الى أميركا، وانقطعت أخباره عن العائلة، وظلت الأم تشتاق إلى عودته بلا طائل، إذ ماتت دون أن تراه، وكان ذلك خلال رحلة والد رجاء نعمة لاستعادة أخيه.

تأخذ حكاية الجد والجدة والأب والعم، وكذلك العمة، حيزا كبيرا من «مذكرات امرأة شيعية»، بل يمكن استخلاصها من الكتاب، لتكون بمثابة رواية خاصة عن عائلة نعمة، كاملة الأركان، تشتمل على عناصر جذب ربما لم تتوافر لبعض الأشياء الأخرى التي أوردتها الكاتبة في مذكراتها. اللافت أن الكاتبة رجاء نعمة لم تورد حكايات العائلة متسلسلة، أو دفعة واحدة، حتى إنها أجلت جزأها الأخير، الى نهاية المذكرات، كنوع من التشويق ربما، وكي تجعل القارئ مشدوداً إلى صاحبة السيرة كلها، وليس الى جزء منها فحسب: «زهية (الجدة) تفتح عينيها وتسأل عن وهبي. لون عينيها الرمادي يؤكد لجدي أن النهاية وشيكة. يهرع الى الدار ويكتم بكاءه ويلعن وهبي. فيما هي تسأل هل ذهب وهبي إلى الحرب؟ وتسأل عن حميد هل أخذوه هو أيضاً، إلى سفر برلك؟

ـ لا يا أمي. وهبي راح عا أميركا. حميد لحقوا ليرجعوا. الحمد لله رح يوصلوا. صاروا بحيفا. يوم وبيوصلوا عا صور. لا فائدة!. أمضى حميد ليله يبكي. وجه أمه لا يفارقه. وصوتها لأول مرة منذ رحيله يحضره بهذه القوة: صوت طفلة لوجه طفلة. نعم، فهذه التي أنجبته وأنجبت أربعة آخرين لا تعدو كونها طفلة استعصت على الكبر. يبكي طفولتها وأمومتها وفقدانها ابنتها وفراق ولديها. يبكي في الليل وفي خلواته بنفسه».

فضاء أثير

كما استغرقت تلك الحكاية العائلية قلم رجاء نعمة، اجتذبتها أيضا بعض الأمكنة، في لبنان وخارجها، لاسيما مدينة «صور»، حيزها المفضل، حيث الفسيفساء البشرية، والمدينة «التي باركها المسيح»، فـ«صور» هي الفضاء الذي فتحت عليه الكاتبة عينها، وعلى بحرها نسجت العديد من الأساطير، شاهدت نسوة يتوسلن إلى أمواجه، ويرسلن إليها رقيات خاصة بصدور مفعمة بالرجاء، واستمعت في «صور» إلى العديد من القصص الحزينة والسعيدة أيضاً، التي جعلتها شغوفة بالحكي منذ فترة مبكرة من حياتها.

تقول صاحبة «مذكرات امرأة شيعية»: «كاتبة هذه المذكرات، امرأة تشبه نساء كثيرات من جيلها في لبنان. عاشت السنوات الأولى من حياتها في المدينة التي ولدت فيها. تشربت منذ طفولتها روح العدل، وتبنت اليسار رؤية والعروبة هوية، لكنها ورثت أيضا التناقضات: عن مدينتها المحافظة ورثت ثورية سياسية لم تنقطع، وقلما كان لها نظير. وعن أسرتها التي تفوق المدينة محافظة، ورثت جرأة في التفكير، ومراسا في إعادة النظر في الأحكام المسبقة. قد يتساءل القارئ عن مغزى هذا التناقض. لم تكن الازدواجية بين نمط الحياة والموروث من التقاليد تقتصر على مدينة صور، ففي المرحلة التي رأينا فيها النور، كانت مدن لبنان تعيش ازدواجية حضارية بصورة طبيعية. سأكتشف أن مدن الساحل التي يبدو ظاهرها متفرنجاً هي في حقيقة الأمر شديدة المحافظة. أنت في منطقة حافظت زمنا طويلا على أوضاعها الثقافية والاجتماعية ، ثم بعيد عقدين من القرن العشرين، عصفت بها التغيرات... على رغم وعورة الدرب كان جيلنا محظوظا، أي سعادة أن تحلم بأنك ستشهد تغيير العالم، وأن تغدو أنت نفسك حلقة في سلسلة هذا التغيير؟ النظم القديمة تتابع انهيارها. العدل سيعم الدنيا، والأخطاء التي تقع فيها الأنظمة الثورية ستعالج، إذا أنت في قلب العالم».

الأكثر مشاركة