«دروز بلغراد»..كبش فداء بنهاية سعيدة

إلى أزمنة بعيدة، وأمكنة قصية، يرتحل الكاتب اللبناني ربيع جابر، في روايته الجديدة «دروز بلغراد.. حكاية حنا يعقوب»، متخذاً من تبعات حرب جبل لبنان في عام 1860 محطة انطلاق، ورغم أن بيروت بداية القصة ومنتهاها، إلا أن الأحداث تتنقل بطول مدن البلقان وعرضها، متتبعة مصير بطل الحكاية حنا يعقوب، الذي اقتيد، ككبش فداء، مع جماعة من الدروز المنفيين إلى بلاد الصرب.

نتاج غزير

 

ولد ربيع جابر في بيروت عام ،1972 درس في الجامعة الأميركية، ورأت روايته الأولى النور ولم يكمل العشرين من عمره، وكانت بعنوان «سيد العتمة» التي حازت جائزة النقاد للرواية، بعدها توالى نتاجه الروائي الغزير، ومن بينها كثير من الأعمال التي تنحو نحو السرد التأريخي، ولعل من أبرز تلك الروايات ثلاثية «بيروت»، نافست روايته «أميركا» على جائزة البوكر العربية للرواية في دورة عام ،2010 ووصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة. ومن بين أعمال جابر روايات «شاي أسود» ،1995 «البيت الأخير» ،1996 «الفراشة الزرقاء» ،1996 «رالف رزق الله في المرآة» ،1997 «كنت أميراً» ،1997 «نظرة أخيرة على كين ساي» ،1998 «يوسف الإنجليزي» ،1999 «رحلة الغرناطي» ،2002 «بيريتوس: مدينة تحت الأرض» ،2005 «تقرير ميليس» ،2008 و«الاعترافات» .2008

تنتمي «دروز بلغراد» إلى الرواية ذات الاتجاه التاريخي، الرواية التي تنفخ الروح في «زمان ميت»، وحقب منسية، تستند إلى شخصيات حقيقية، وأخرى مخترعة، تستدعي حادثة ما لتبني عليها وقائع، يعود المبدع إلى ما قبل قرون غابرة، يبحث ويتأمل ويحلل، يرى ما لا يرى في كتب المؤرخين، يهب مشاعر لأناس لا نعلم عنهم شيئا، يمنحهم ألسنة بليغة، يجعلهم يتحدثون عن واقعهم وامانيهم، يعود إلى الوراء ليستنطق التاريخ، ويحاسب شخوصه، يثير شكوكا وهواجس حول المرويات والتاريخ الرسمي الذي كُتب تحت أعين السلاطين والملوك، لا يعترف بأن الكلمة الفصل قد قيلت، أو أن من حق المؤرخ الزعم بأنه يحتكر الحقيقة لنفسه.

إدانات وأبواق

مع أنه غالباً ما تحضر الإدانات والاتهامات لطرف على حساب آخر، حينما يستدعي روائيون فترات عصيبة، شهدت أحداثا مفصلية بين أبناء المجتمع الواحد، فتتحول شخصياتهم إلى أبواق، وكائنات مصطنعة، وعرائس بلا روح تنطق بآراء الكاتب، إلا أن صاحب «دروز بلغراد» نجا من ذلك الشرك، ربما بخبرة مسيرة روائية اقتربت من السبعة عشر عملاً، إذ يلاحظ قارئ عمل جابر الأخير أن الشخصيات تنطق بلسانها الخاص، ويبدو السارد غير معني بالمرة بالبحث عن «الجناة والضحايا»، أو الانتصار لمذهب على سواه، إذ يكفيه رسم عالم متخيل، ربما يكون اصدق من التاريخ الذي سطّره البعض، وشغلتهم الإدانات أكثر من تمحيص الحقائق.

واللافت أيضا في «دروز بلغراد» الصادرة عن المركز الثقافي العربي في الدار البيضاء، ودار الآداب في بيروت في 239 صفحة، أن طول الرحلة، وتشعب محطاتها، وكثرة شخصياتها فنيات سيطر عليها بحرفية ربيع جابر، إذ تنقل حنا يعقوب ورفاقه كثيرا، ومع ذلك ظلوا محتفظين بذلك التشويق الذي يجعل القارئ مترقبا لما سيأتي.

شرقت الرواية وغربت، سافرت من بيروت إلى صربيا، وأقامت بالبوسنة والهرسك والجبل الأسود وبلغاريا، وحطت باسطنبول ودمشق وعادت في النهاية إلى بيروت، ودخل حنا سجونا وقلاعا وصعد جبالا وهضابا، وبحث عن مهرب في غابات ومراعٍ خضراء، ومع ذلك لم تصب كل تلك التنقلات الرواية بالترهل، بل أضافت زخما إليها.

بديل

عقب حرب جبل لبنان التي شهدت مجازر، فر كثيرون إلى العاصمة، تاركين الجبل، وباحثين عن ملاذ آمن في المدينة الكبيرة، امتلأت بيروت بالعساكر، والقناصل الأجانب، وغص ساحلها بسفن من دول عدة. وفي أحد الصباحات خرج حنا يعقوب، بعد أن كحل عينيه برؤية رضيعته بربارة، وزوجته هيلانة ساعياً الى لقمة عيشه، حاملا سلته، مناديا على بيضه المسلوق، تقوده الأقدار إلى مرفأ المدينة، يجد إحدى السفن المحملة بجماعة من الدروز المحكوم عليهم بالنفي إلى بلغراد، بعد إدانتهم بالتورط بجرائم في الحرب الأهلية.

يأخذ الضابط العثماني المسؤول عن سفينة الدورز حنا «كبش فداء» ليكمل عدد المحكومين المنفيين، ليحل بديلا لسليمان عزالدين الذي تركه الوالي بعد شفاعة من أبيه، لا تفلح محاولات حنا، يقيد بالسلاسل ويرمى في السفينة ليواجه سنوات من المنافي والتشرد والسجن في بلاد بعيدة. تحط السفينة في بلغراد، يحبس الدروز وحنا في قبو مظلم بقلعة حصينة.

يستعين مسؤول القلعة التركي بالمساجين الجدد في أشغال شاقة، ومع ذلك يشعرون بالسعادة لمجرد أنهم يغادرون القبو، ويرون الشمس. عمل المنفيون لسنوات في «السخرة» شقوا قنوات، وأصلحوا جسورا، وبنوا حصونا وقصورا، تنقلوا بين سجون عدة في مدن مختلفة، سقط منهم البعض كمداً وحسرة وتعباً، وفي الطريق من بلغراد «قضى في الرحلة إلى حبس الهرسك تسعة، بينهم جندي أسقطته ضربة شمس عن حصانه. الباقون قتلهم الأعياء والجفاف».

وحدت الغربة بين حنا المسيحي وجماعة الدروز، وقع الأول مريضا خلال أحد التنقلات، واصر أحد افراد الجماعة على عدم تركه للموت، و«نجا حنا يعقوب لأن قاسم عزالدين حمله كالخروف على كتفه».

تقارب

ازداد أبناء الوطن الواحد تقارباً في المنفى، تقاسم حنا مع أبناء وطنه الهموم والأكلة والأعمال والنومة، كان يفكر دوما رغم السنوات والبعد في ابنته وزوجته، يستدعي صورة بيروت في أي مشهد جمالي يراه في بلاد البلقان، يرى بلده في بيت بحضن جبل، أو واحة ذات أشجار خضراء يانعة.

مات كثيرون من أفراد الجماعة، وحاول حنا الهرب إثر رؤيته مشاهد «إخوته» وهم يقتلون واحداً إثر الآخر، يهرب حنا من السجن إلى السجن، إذ يقع بعد هروبه في قبضة والٍ تركي، يحكم إحدى المناطق في البلقان، فيحكم عليه الأخير بالسجن لهروبه من خدمة السلطان، وقطع اليد لسرقته بيضة، أنقذ بها نفسه من الموت جوعا، لكن يخفف الحكم إلى السجن فقط، في محكمة هزلية، حاول فيها أن يروي حكايته، لكن لم يخرج صوته المقهور.

تفتح الرواية باباً على قسوة الباب العالي وآل عثمان، تشير إلى جانب من القهر الذي كان يعيش فيه رعايا الإمبراطورية التركية، في مقابل الرغد والترف الذي كان ينعم به الباشاوات والأغاوات والحاكمون الأتراك، وكل من يسير في ركابهم، في فترة تمددت فيها الإمبراطرية العثمانية شرقا وغربا شمالا وجنوبا.

نهاية سعيدة

قد تستوقف القارئ بشكل خاص خاتمة «دروز بلغراد» غير المتوقعة، ونقطة النور السحرية التي أضاءت لحنا درب العودة إلى عائلته الصغيرة، قد يجد البعض فيها حلا مفتعلا، وقد يراها آخرون مفاجأة تكشف عن خيال خصب للمؤلف، فحنا بعد احتراق سجنه الأخير يفر بجلده، ولا يتوقف رغم البارود، يجري إلى أن يسقط إعياءً، يعثر عليه راعٍ صغير، يحسبه درويشا ذاهبا إلى الكعبة مشيا على الاقدام، كما يفعل البعض في بلاد البلقان، ممن يعتقدون أنه كلما بعدت المسافة كلما زاد الأجر، وحظي المشاء بجيرة النبي محمد في الجنة، المهم يفيق حنا على يد الراعي، ويرشده الأخير إلى قافلة حجيج، يلحق بها حنا (المسيحي) وينضم إلى أفرادها، يحسنون معاملتهم، ويداوون جراحه، يتوضأ، ويصلي صلاة المسلمين، ويستمع إلى آيات القرآن، يبيت في استراحات مخصصة للحجيج في الطريق، تحتفي القرى المسلمة بالجميع، تحملهم سلامات لتبليغها إلى ساكن الروضة الشريفة، وتمنحهم زجاجات «الشربات» كي يعيدوها إليهم مملوءة بماء زمزم، وحينما تصل القافلة إلى دمشق، ينسل حنا من بينهم، ليعود إلى زوجته وابنته بعد 12 عاما من المنفى والسجن والقهر: «بربارة التي ظنها هيلانة التفتت ورأت فقيرا واقفا في جلد ماعز لعله يريد خبزا أو بيضا من القن. وضعت شغل الصوف على العتبة ونادت أمي. ظهرت هيلانة قسطنطين يعقوب من داخل البيت تحمل ثوبا. رأت رجلا مرتعدا في عتمة المساء. سقط الثوب من يدها. حنا؟ هذا أنت يا حنا؟ جلس حنا يعقوب على الأرض. هذه هيلانة أنا في البيت. شعر بالأصابع على جسمه تتأكد أنه ليس شبحاً. حضن زوجته وابنته وبكى. شهق وملأ رئتيه بالهواء».

الأكثر مشاركة