مرارات طائفية جــــــديدة.. ولا عزاء لأقلام التــهدئة
من جديد، تصحو الطائفية في مصر، تضرب في غير مكان، مطالبة بـ«الأخت» كاميليا شحاتة، أمام الكاتدرائية في منطقة العباسية وسط القاهرة، و«الأخت» عبير في حي إمبابة الشعبي، مخلفة وراءها 12 قتيلاً، وأكثر من 240 جريحاً، وكنيستين محترقتين، ومرارات جديدة في بر مصر، وحسرات في أوراق كتّاب دعوا طويلاً الى قيم التعايش والتسامح بين أبناء الوطن الواحد، في مشهد عبثي يحاول اغتيال الفرحة بإنجازات ثورة 25 يناير التي احتفت بمئويتها اليومية الأولى.
يعد المفكر فهمي هويدي واحداً من أبرز حملة الأقلام الذين تصدوا لظاهرة الطائفية، منذ أكثر من ربع قرن، عبر كثير من مقالاته، لاسيما التي ضمها كتابه المميز «مواطنون لا ذميون»، الذي يقر بكرامة كل إنسان في هذا العالم، ويدافع عن حقوق غير المسلمين في المنطقة العربية، معتبراً أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، مشدداً على مفهوم «المواطنة التي تحفظ للإنسان كرامته فى المجتمع الذي ينتمي إليه»، ومنبهاً إلى أن التسامح ليس هبة تتصدق بها أكثرية على أقلية، وإنما هو ضرورة حياة، وحق من الحقوق الإنسانية، داعيا إلى المساواة بين الجميع في الحقوق والواجبات.
بدأ هويدي الذي تحظى كتاباته باحترام بين معظم التيارات، رغم أنه محسوب على الجناح الإسلامي، بدأ التفكير في إعداد كتابه، بعد أحداث منطقة الزاوية الحمراء الطائفية الدامية التي اشتعلت لأيام عدة في مطلع ثمانينات القرن الماضي، وخلفت الكثير من القتلى والجرحى، في نهاية حكم الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات الذي شابت فترة حكمه حوادث طائفية عدة، سيما أن «الرئيس المؤمن» ترك «لغايات في نفسه» الأبواب مشرعة أمام التيار الديني المتشدد، للظهور والانتشار على أكثر من صعيد.
| مراجعة في محاولة للبحث عن مردود الكتابة، وحصاد القلم، كتب المفكر فهمي هويدي في إحدى مقالاته، بعد أيام قلائل من أحداث تفجيرات كنيسة القديسين المأساوية في مدينة الإسكندرية، والتي وقعت في ديسمبر الماضي، كتب هويدي «أكتشف كم كنت بريئاً وحسن الظن آنذاك، وكيف ان الكتابات التي سعت إلى مد الجسور، وتحقيق الوفاق بين المسلمين والأقباط ذهبت أدراج الرياح، وأن الغرس الذي زرعناه وقتذاك لم يطرح الثمار التي تمنيناها. ولا أقول ذلك تأثراً بحدث التفجير الذي استهدف رواد كنيسة القديسين في الإسكندرية، ولكني لاحظت مناخ ولغة المرارات في مشاعر وخطاب كثيرين من الدوائر المحيطة، الأمر الذي يجعلني أجزم بأن العالم الذي علقنا عليه الآمال قبل ربع قرن اختلف تماماً، حتى صرنا الآن بإزاء مشهد آخر لم تخطر لنا قسماته على بال، أقل ما يمكن أن يقال في حقه أن شرخاً حدث فى العلاقات بين المسلمين والأقباط تحول بمضي الوقت إلى فجوة تزداد عمقا واتساعا حيناً بعد حين. وللأسف فإن جهود ترميم الشرخ أو ردم الفجوة حققت فشلاً ذريعاً، بحيث إن فكرة العيش المشترك تراجعت، وكدنا نصل إلى حالة «المساكنة»، التي يمكن أن تتطور إلى أسوأ إذا لم تتداركها العناية الإلهية، وإذا لم ينتبه الجميع إلى خطورة الآثار الناجمة عن تراكم المرارات». ويحاول هويدي في عموده في جريدة الشروق المصرية، الإجابة عن السؤال العويص لماذا فشلت كل تلك الكتابات الداعية إلى لمّ الشمل. |
تاريخ
يعود هويدي إلى بدايات ظاهرة الطائفية، ومنشئها تاريخياً في المنطقة، قارئاً نصوصاً تراثية، واجتهادات الفقهاء، لإزاحة اللبس واستجلاء الغوامض، للإمساك بخيوط «الأزمة» منذ البداية، على حد تعبير هويدي في الفصل الأول من كتابه «مواطنون لا ذميون»، معرجاً على محطات تاريخية توضح علاقة المسلمين بغيرهم، وموقف غزاة المنطقة منهم، لاسيما أن المستعمر في العصر الحديث حاول فرض كلمته على ابناء الوطن العربي، متعللا بحماية الأقليات غير المسلمة، التي تعاني اضطهاداً وتمييزاً في بلاد المسلمين، وحدث ذلك تحديداً بعد ضعف الإمبراطورية العثمانية التي كانت تفرض سيطرتها على معظم البلدان العربية.
يستشهد هويدي بالنموذج الفرنسي في مصر، خلال حملتهم عام ،1798 والإجراءات التي اتبعوها للتفريق بين المسلمين والمسيحيين، بتقريب طائفة من دون أخرى، والاستعانة بها لإدارة شؤون البلاد، بل وصل بهم الأمر، كما ذكرت بعض المصادر التاريخية، إلى تكوين شبه ميليشيا من الأقباط، يتزعمها الجنرال يعقوب الذي غادر مصر مع الغزاة الفرنسيين لمصر عام ،1801 ووقعت أحداث طائفية بعد رحيل الفرنسيين راح ضحيتها كثيرون، إذ «قضى الفرنسيون ثلاث سنوات في مصر، ثم غادروها حاملين معهم عملاءهم من الأقباط والمسلمين، ومخلفين وراءهم مثل سابقيهم شرخاً عميقاً في جدار مصر».
تفرقة
اتسع الخرق «الطائفي» على الراتق، حين احتل الإنجليز مصر، إذ زادت محاولات التفرقة بين عنصري الأمة في مصر، ولم تتوقف طوال القرنين التاسع عشر والعشرين، بل عمل المحتل على زرع بذور التعصب، وفق قاعدة «فرّق تسد»، ولإضفاء شرعية على احتلالهم لمصر، تعلل الإنجليز بحقوق الأقباط والأقليات في مصر، إذ إن «إلحاق المنطقة بالغرب لم يكن ممكنا إلا عن طريق تفكيكها وتجزئتها، ولو أعطيت لأي سياسي في العالم مسألة يــسألونه فيها أن يسعى إلى إلحاق المنــطقة العربية بالغرب، لما اختار غير الأسلوب الذي اختاره الغرب فعلاً. وهو تفكيك المنــــطقة بالفتن الطائفية، والتفتيت الاجتماعي والثقافي وافتعال الخصومات والفروقات، وتوسيع مواطن الاختلاف والمبالغة في إبرازها.. ولعل من يستبعد دور الغرب في إشعال فتيل هذا التقاتل، هو واحد من اثنين: خادع أو مخدوع». لا يعني ذلك أن هويدي يلقي بالتبعية في الطائفية كاملة على الغرب، وأميركا وإسرائيل، لأن «مسؤوليتنا تظل قائمة رغم كل محاولات الغرب ودسائسه. فالاختراق لا ينجح إلا في جسد قابل للاختراق، والجراثيم أول ما تصيب الأجسام التي تفتقد إلى الحصانة والمناعة.. إن درس التاريخ الذي يجب أن نحفظه هو أن الفاعل الأول في ما يلحق بنا من هزائم وانتكاسات، هو نحن قـبل غيرنا».
يسلط الكاتب المصري صاحب مؤلفات «التدين المنقوص» و«إيران من الداخل» و«العرب وإيران» يسلط الضوء على فترات تميزت العلاقة فيها بين المسلمين وغيرهم بالإشراق، تعايشوا معاً تحت ظلال المودة والرحمة، وكذلك يتعرض لفترات الحيف والانحراف، وأيام تعرض فيها الجميع، مسلمين ومسيحيين، للقسوة والاضطهاد من قبل ولاة وحكام مستبدين.
ويعتبر هويدي أن مبدأ التسامح الذي كان يحكم علاقة المسلمين بغيرهم، لم يعد «مستساغاً الآن بأي حال»، فالتعايش بين الجميع، ليس منّة من أحد، بل هو أساس للتعامل، ولا ينبغي أن يتفضل به طرف على آخر «ربما كان للافتة التسامح بريقها وزينتها في عصور مضت، قننت العنصرية والرق، وقسمت الناس درجات عليا وسفلى، ولكن هذا البريق يكاد ينطفئ الآن، بعدما تتابع إصدار المواثيق وإعلانات المبادئ التي تقرر هذه الحقوق بمثابة جرائم يعاقب عليها القانون الدولي».