مهرجان تورنتو غطاء يكشف المستور
لايمكن أن يكون الاعتراض إلا مظللاً بعباءة دولية، ليس بالمقدور اتخاذ موقف ما لم يسبقه إجماع دولي على صوابه، حتى وإن كان الأمر متعلقاً بأعدل قضية إنسانية على وجه الأرض، المبادرة مرفوضة وعلينا أن نبادر حين يبادر غيرنا، أو لا نبادر أبداً حتى وإن بادروا.
المقدمة تلك تأتي في تتبع لما نشهده من جدل واسع حملته الصحف العالمية، ومن ثم العربية، حول مقاطعة سينمائياً مهرجان تورنتو السينمائي لاستضافته تل أبيب بوصفها ضيفة شرف لدورة هذا العام، الأمر الذي اعتاده في كل عام يخصصه لمدينة، ولعل الاعتراض الأول جاء من المخرج الكندي جون غريسون الذي سحب فيلمه الوثائقي «محجوب» من المسابقة، احتجاجاً على «الغزو الاسرائيلي الوحشي لغزة»، وليلقى الموقف هذا استجابة كبيرة من سينمائيين ومثقفين حول العالم، ويتحول إلى بيانات رافضة للاحتفاء باسرائيل، أو «لا للاحتفال بالاحتلال»، حسب تعبير الكاتبة الأميركية نعومي كلاين، صاحبة كتاب «عقيدة الصدمة: صعود الرأسمالية الكارثي»، وليعلو إلى جانبها صوت المخرج الإنجليزي كين لوتش الذي اعتبر حركة الاحتجاج نوعاً من الضغط السلمي على إسرائيل، لإيقاف أعمالها المنافية لحقوق الإنسان، كما كتب في «الغارديان».
يضاف إلى قائمة المعترضين كل من داني غلوفر «المعروف بمواقفه الداعمة للشعب الفلسطيني»، والممثلة الشهيرة جين فوندا، ولعلهم جميعاً يجمعون على أن حركتهم هذه غير موجهة ضد السينمائيين الإسرائيليين، بل هي فعل مناهضة لأعمال الاحتلال، ومحاولة لتسليط الضوء على ممارسته، ويجدون أنه من غير اللائق الاحتفاء بتل أبيب بوصفها «المدينة اليانعة التي تحتفي بالإبداع» ولم يمض على مجزرة غزة سوى ثمانية أشهر.
الأفلام العربية المشاركة في مهرجان تورنتو بقيت على حالها، ما من مجيب للدعوة سابقة الذكر، مازالت أفلام «الوقت الباقي» لإيليا سليمان و«احكي ياشهرزاد» ليسري نصرالله و«كل يوم عيد» لديما الحر و«مصر الجديدة» لأحمد عبدالله و«نهر لندن» لرشيد بوشارب و«المسافر» لأحمد ماهر مشاركة جميعاً في المهرجان، لا بل إن بيان من المخرجين يسري نصرالله وأحمد عبدالله خرج على الملأ يؤكدان فيه استمرار مشاركتهما، بناء على أنهما لن يتركا الساحة للإسرائيليين.
قد يكون بيان نصرالله وعبدالله صالحاً في مناسبات كثيرة أخرى، ولعله يحمل من الصواب الكثير إن تعلق الأمر بالمناسبات والمهرجانات السينمائية العالمية، بمعنى أن مقاطعة المهرجانات السينمائية لمجرد مشاركة أفلام إسرائيلية فيها سيعني غياب السينما العربية عن العالم، وترك الساحة خالية تماماً للسينما الإسرائيلية، هذا بديهي، ولعله من الحمق التخلي عن مناسبات بالكاد تحتضن منتجاً سينمائياً عربياً محاصراً من الداخل والخارج.
لكن الأمر مختلف مع «مهرجان تورنتو»، إنها حركة عالمية لا يمكن التخلف عنها، ليس لنا أن ندع غيرنا يدين ما يطالنا وما يلامس حياتنا اليوم، ثم إن الاحتفاء هنا بمدينة قائمة على الدم الفلسطيني والأمر خارج السينما وحتى السياسة. إنه موقف إنساني لا أكثر ولا أقل، وصراخ يعلو بحناجر من يناصرون القضية الفلسطينية في الغرب، لا لشيء إلا لعدالتها، لا أقل أن تنضم أصوات السينمائيين العرب إلى تلك الأصوات، فليس الأمر في أفلام أو سينمائيين إسرائيليين، إنه الاحتلال نفسه، واقع هذا الاحتلال، والبشر الذين يهجرون يومياً من منازلهم. المفارقة بينة، التناقض جلي، ثم إن الغطاء الدولي متوافر، ما دمنا عاجزين عن الإتيان بحركة ما لم يتوافر هذا الغطاء الذي يكشف المستور هذه المرة.