«زارا».. الحديقـة لنا والــزهرة معنا
ثمة نداءات لا تكتفي بالإصغاء إليها كفعل محايد، بل ستدفع من تقصده لتلبيتها، وعليه تكون مولّدة للفعل، بعيداً عن الحنين فقط على اعتباره فعلاً صامتاً يتوجه إلى داخل الإنسان، فهنا الأمر مدعاة للعودة ما دام يأتي من الخلف، مما صار بعيداً، فإذا به يلاحقك، ومن ثم يمسك بيدك فيأخذ بها إلى المنبع، إلى الطفولة الملأى بصور لا تفارق الذاكرة.
السؤال مع فيلم عنوانه «زارا» عن تلك الصور، سيقود إلى صور ملأى بالمآسي، وقصة قرية اختفت من على وجه الخريطة والتضاريس، بحيث صارت بيوتها كومة أحجار يمكن لبهلول القرية المتبقي أن يحوّلها إلى مزارات ما دام من تحتها أهلها، وكل ما يعرفه هو الدوران حولها، ورشها بالماء على شيء من الطقوس التي لا يجد أمامه غيرها. ولعل النداء سابق الذكر تلبيه ميركا (سرييل أوكال) التي كما يقدمها الفيلم تعيش في سويسرا، لتعود ومعها صديقتها السويسرية نورسا (بربارا سوتيليسك)، ومن هنا يكون لنا أن نشاهد ما أمامنا وهو يتشكّل برمزية مفرطة، لها أن تكون مصابة به من جراء رمزية طقوس سكان القرية التي نشأت فيها ميركا، بحيث يقدم لنا الفيلم قرية كردية ينتمي سكانها القليلون إلى طائفة باطنية ذات شعائرية مفرطة الخصوصية والرمزية، تحوم في أرجائها أطياف الأئمة الاثني عشرية، وتجد في المرايا المعلقة على أبواب البيوت شيئاً على ارتباط بمعتقدات أهلها، وغير ذلك من طقوس الصيام. يمضي فيلم «زارا» ذو الإنتـاج الهولندي ـ السويسري ـ النمساوي المشترك خلف خيوط سردية عدة، تبدأ من ذاكرة ميركا، ومصير عائلتها الذي تستعيده على دفعات، إلى أن تصل إلى اختفاء والدها ووفاة أمها، وعلى مسار موازٍ نرى مصير القرية بأكملها، ما كانت تعيشه من طقوس ومعتقدات، مع تحليق دائم لطائرات سنجده موظفاً في النهاية التي تكون بنزول الجنود من تلك الطائرات وقتل كل من فيها، إنها القوات التركية، كما سيقول الفيلم بوضوح، ويطلق رسالة سياسية مباشرة نحو الأتراك مفادها: «هل سيسعد ذلك من يسمون أنفسهم أتراكاً؟».
تبقى أمور كثيرة معلّقة في الفيلم، ولنا أن نتتبعها؛ كونها تحدث في داخل ذاكرة ميركا، والأشخاص الذين تصادفهم في طريقها يحملون من الرمزية الكثير، فهناك صندوق بريد مليء بالرسائل، وسط سهل مترامي الأطراف، تعود ميركا لترى امرأة ترسل الرسائل كل اليوم وتبقى حبيسة الصندوق، كما أن الموت يكون المهيمن الأكبر على الفيلم؛ إذ تموت نورسا صديقة ميركا على شيء له أن يكون من عبء ذاكرة نورسا عليها، التفسير الخارج عن أي منطق، ومن ثم نقل جثتها على عربة تقودها امرأة الرسائل سابقة الذكر، وقيام نورسا بحرق جواز سفرها السويسري ومعه جواز نورسا، على شيء من بطلان هويتها الجديدة، ولتخضع جثة نورسا لكل طقوس رجل عجوز تجده ميركا بين قدور تغلي. هذا إضافة لشاب نراه يقبّل يد أمه، فنشاهده في لقطة أخرى مسجى على سرير، بينما تقوم أمه بغسله، وهي ترنّم أغنية حزينة.
فيلم «زارا» الذي أخرجته أيتن موتلو ساري مفرط الرمزية، وعلى شيء من التشظي المتأتي من الذاكرة والحلم، ولعل توثيقه للمآسي، جعله في وسط مستنقع كبير من الحزن، يتخبط بلقطات مفتوحة على مصراعيها على التفجع، لا بل إن السهول المترامية، ومن ثم الجبال استثمرت لتكون على مشهدية بانورامية للمكان، مع حضور دائم لعنصري النار والماء، والتأكيد في النهاية على أن «الحديقة لنا، الزهرة معنا» على الرغم من إبادة كل من كانوا يقولون ذلك.