عملية الاقتباس..المتهم الأول في محكمة معجبي العمل الأصلي
شاهدنا هذا الأسبوع فيلم «إنفيرنو» وقبله فيلم «الفتاة في القطار»، وكانا عملين مليئين بالأخطاء والعيوب، عند البحث في الأسباب نجد أن عملية الاقتباس هي السبب، إذ إنها لم تراعِ خصوصية السينما كوسط فني مستقل. الكلام نفسه يجري على الكثير من الأفلام التي لم تقتبس جيداً مثل الأجزاء الأخيرة من أفلام ألعاب الجوع ومقلدتها سلسلة «دايفرجنت»، كلها أخفقت فنياً بسبب الاستعجال في عملية الاقتباس والتخلي عن عناصر مهمة في الروايات.
| بالنسبة لنا كمشاهدين فإننا نحب التعرف إلى الشخصية في الفيلم كما تعرفنا إليها وتأثرنا بها في الرواية «سلسلة أفلام هاري بوتر تعد من الأعمال المقتبسة الجديرة بالاهتمام ليس لكونها ظاهرة عالمية (على مستوى ملك الخواتم) فقط، إنما لكون عملية الاقتباس مرت بمراحل دقيقة وحاسمة لولاها لفشلت السلسلة بأكملها».
غضب
ميلوش فورمان أغضب كين كيسي مؤلف رواية One Flew Over the Cuckoo’s Nest أو «طار فوق عش الوقواق»، لأنه ألغى وجهة نظر شخصية المفتش برومدن من رواية قصة الفيلم، وفضل التركيز على شخصية راندل مكميرفي (جاك نيكولسون) كمخلّص للمرضى النفسيين في المشفى. مجرد فكرة ستيفن سبيلبيرغ أخذ مجرد فكرة عن قرش ضخم قاتل وحولها من مجرد خيال في الأذهان إلى فيلم لايزال يعد مثالياً في إبراز شخصية القرش، ولم يتفوق عليه أي فيلم قرش حتى الآن. ديفيد لين أدرك أنه لن يستطيع الإحاطة بكل عناصر رواية دكتور زيفاغو، فركز في اقتباسه على قصة الحب الملحمية.
|
يعد الاقتباس السينمائي من الكلمة المكتوبة (مقال أو قصة قصيرة أو رواية) من أصعب العمليات لصناعة فيلم بالنسبة لفريق كتاب العمل أو منتجيه أو حتى مخرجه، خصوصاً إن كان العمل متعلقاً برواية محبوبة حققت نجاحاً كبيراً. عملية التحويل تحكمها عوامل عدة، منها: مدة عرض الفيلم، والرقابة، والجانب التسويقي، وحتى القرارات الفنية المتعلقة بشكل الفيلم عموماً، كلها أصبحت بمثابة مشكلات أكثر منها عوامل لتحويل الكلمة المكتوبة إلى صورة من الممكن أن تصطدم بعشاق العمل الأدبي حول المنتج النهائي.
العناصر الواجب انتقالها من العمل الأدبي إلى الفيلم السينمائي ليست مجرد قضية، ماذا سنأخذ أو ماذا سنترك من الرواية. في أحوال كثيرة فإن مسألة الاقتباس بأكملها تأتي من الإخلاص للرواية، بالنسبة لنا كمشاهدين فإننا نحب التعرف إلى الشخصية في الفيلم كما تعرفنا إليها وتأثرنا بها في الرواية، ونريد الاستمتاع بالتفاصيل على الشاشة كما فعلنا على صفحات الرواية.
ولعلنا نتذكر رائعة سبايك جونز Adaptation أو «اقتباس» عام 2002 من بطولة نيكولاس كيج، التي سلطت الضوء على العملية الشاقة التي يمر بها الكاتب أثناء عملية تحويل الكلمة المكتوبة إلى الشاشة الفضية.
تقطير
أول ما يفعله الكاتب المقتبس هو تطبيق تقنية تسمى «التقطير»، أي أخذ الرواية ووضعها من خلال عدسة الكاميرا التي تعمل كـ«مصفي» لأخذ الجوانب الضرورية من القصة والشخصيات وترك التفاصيل الأخرى الأقل أهمية، والتي لا يشكل تركها أي ضرر للعمل الأصلي. من النادر جداً ألا تطبق هذه التقنية على أي عمل سينمائي بطريقة أو بأخرى، بالطبع الاستثناءات في هذه الحالة تنطبق على القصص القصيرة، مثل «كريسماس كارول» وبعض أعمال ستيفن كينغ. هذه الأعمال بالمقارنة بحاجة إلى عملية معاكسة تسمى «الاقتباس التوسعي»، وهي عبارة عن إضافات إلى النص الأصلي لإطالة مدة العمل الفني أو إضافة المزيد من العناصر للقصة، مثلاً إضافة شخصيات جديدة إلى سلسلة أفلام ذا هوبيت لمد كتاب واحد إلى ثلاثة أفلام، وكذلك فيلم «دونت لووك ناو» الذي قلب قصة قصيرة مخيفة لدافن دو مورييه إلى فيلم من صنف دراسة سلوك شخصية لزوجين مفجوعين.
حتى ملحمة ممتدة لأربع ساعات تقريباً مثل «ذهب مع الريح» تطلّب اقتباسها اقتطاع العديد من القصص الفرعية والشخصيات لتتناسب مع تلك المدة الزمنية. ولو حيدنا الأسباب المتعلقة بميزانية الفيلم، فعظم الناس لن تتوجه إلى الصالات لمشاهدة فيلم يعرض كل التفاصيل الدقيقة للعمل الأصلي، هذا النوع من الاقتباسات لن يجذب سوى عشاق الرواية الأصلية دون غيرهم.
الفيلمان المقتبسان للمخرج ديفيد لين من روايتي تشارلز ديكينز «Great Expectations» أو آمال عظيمة و«أوليفر تويست» يعدان مثالين جيدين على أعمال وازنت بين عامل الوفاء للرواية والمدة الزمنية، وكذلك الأسلوب الفني للعمل، فقد تم تغيير عناصر من القصة الأصلية (إلغاء قصة روز ميلي من أوليفر تويست)، ومع ذلك حافظت على أجواء القصة الأصلية، خصوصاً مظهر شخصية أليك غينيس الصعب التعرف إليه سواء كان شخصية فاغن في الثاني أو شخصية هيربرت بوكيت في الأول.
لين كان مخرجاً يتمتع برؤية ثاقبة وراسخة لجميع أفلامه المقتبسة، مثل «الجسر على نهر كواي» و«دكتور زيفاغو» و«لورانس العرب»، هذه الرؤية أثبتت سمة واحدة هي قدرته على تحقيق التوازن بين إلغاء عناصر من المصدر الأصلي وإضافة لمساته الفنية الخاصة.
مثال آخر جيد هو اقتباس لورانس أوليفيير وكينيث براناه لمسرحيتي شكسبير هنري الخامس 1944 وهامليت 1996. للعلم فإن الأول احتوى بروباغاندا بريطانية وتنوعاً عرقياً، والثاني صنع لكل شرائح الجمهور حتى أولئك الذين لم يدرسوا الأدب الإنجليزي وليس لديهم خلفية عن شكسبير، في الوقت نفسه فإن براناه تمكن من تحقيق الوفاء التام للمصدر الأصلي.
مأزق
أحياناً تكون الأشياء المرشحة للحذف أو قطع الزوائد بالنسبة للسينما واضحة، ولكن أحياناً أخرى يتعرض الكاتب لمأزق اتخاذ قرار ماذا يلغي بالضبط دون انتقاص، وبالتالي إغضاب عشاق المصدر الأصلي، لكن الهدف النهائي من الاقتباس هنا هو كتابة الفيلم بحيث يكون مؤثراً في الجمهور.
نقطة مهمة تتعلق بقطع الزوائد لتحقيق التكيف سينمائياً هي تحديد أهمية عناصر القصة ككل، أي أن كل عنصر يجب أن يظهر داعماً أو متوافقاً مع الآخر، بحيث إنه لو أزيل فإنه لن يزيل معه جزءاً يتعلق بعنصر آخر مرتبط به، وهنا ممكن أن يضيع الكاتب المقتبس نكهة خالصة موجودة في الرواية ويفتقدها العمل السينمائي، وبالتالي يوقع الكاتب في حفرة لا يستطيع الخروج منها. في هذه الحالة يجب على الكاتب أن يتمتع بنوع من نفاذ البصيرة، ثلاثية «ملك الخواتم» تم تصويرها بعد وقت طويل من كتابة الروايات، وتم في العمل السينمائي نقل كامل حدود عالم المؤلف تولكن الخيالي إلى الفيلم بشكل راسخ. بيتر جاكسون وفريقه تمتعوا بنوع من البصيرة في اقتباسهم وصنعوا ثلاثية متوازنة نقلت أصغر التفاصيل إلى الشاشة الفضية مع قطع الزوائد، ونقل أجزاء من هنا إلى هناك، كان أبرزها نقل جزئية هجوم شيلوب العنكبوت إلى الفيلم الثالث بعنوان «عودة الملك».
لن نقول إن جاكسون كان وفياً في اقتباسه، فذلك ليس دقيقاً، فهناك تهميش لدور إيومر واستئصال شخصية توم بومباديل، وتخفيف ثقل شخصية غيملي ليكون خفيف الظل أكثر، وكل تلك التغييرات تختلف كثيراً عن الرواية الأصلية، لكن رغم ذلك فإن جاكسون وفريقه حرصوا على التأكد من أن مناطق الاختلاف بين الفيلم والرواية لا تؤثر في نوعية النهايات أو مصائر الشخصيات. بكلمات أخرى أخذوا وصفة الكعكة وعدلوها مع التأكد من أن كل العناصر الأساسية حاضرة والمنتج النهائي سيتمتع بزخم المصدر الأصلي نفسه.
سلسلة أفلام هاري بوتر تعد من الأعمال المقتبسة الجديرة بالاهتمام ليس لكونها ظاهرة عالمية (على مستوى ملك الخواتم) فقط، إنما لكون عملية الاقتباس مرت بمراحل دقيقة وحاسمة لولاها لفشلت السلسلة بأكملها. أفلام هاري بوتر- بعكس «ملك الخواتم» - تم اقتباسها أثناء كتابة مؤلفة الروايات جي كي رولنغ الرواية الرابعة في السلسلة المكونة من سبعة أجزاء.
العملية تمت بإرشاد مستمر من المؤلفة لفريق العمل السينمائي ونجحت بسبب قرارات موفقة كان أبرزها الاستعانة بالممثل ماثيو لويس واستبعاد شخصية Peeves the Poltergeist التي لم تضر العملية، لكن يبقى هناك تساؤل: هل ستكون أفلام بوتر بالأسلوب نفسه لو تم انتظار انتهاء المؤلفة من الكتابة، خصوصاً أن رؤيتها لم تكن مكتملة آنذاك أو فلنقل مكتملة لكنها لم تكشف عنها؟
هل كنا سنشاهد القصص الخلفية للأقزام دوبي وكريشر، خصوصاً الأخير، أو شخصية بيتر بيتيغرو بشكل كامل؟ وهل كنا سنشاهد العناصر التي ألغيت لصالح قصص مثلثات الحب ومشاهد مباريات «الكويديتش»؟ (هي مباريات للسحرة ابتكرتها المؤلفة في قصصها). كلها تساؤلات منطقية ربما نجد إجابات عنها لو أعيد إطلاق السلسلة برؤية سينمائية جديدة في العقد المقبل.
منتقدون
هناك الكثير من المنتقدين لعمليات الاقتباس يجادلون في نقطة أن نقل الشخصية من الورقة إلى الشاشة يتسبب في تسطيحها، وبينما تلك النقطة تبقى موضع نزاع شديد فإنه يجب الاعتراف بأن عملية الانتقال من الصفحة إلى الشاشة يجب أن تتوافق مع بعض التغييرات الضرورية لغرض خلق تأثير درامي في وسط مختلف. ويؤخذ أيضاً في الحسبان رؤية المنتج ومطالب الجمهور، وكل ذلك يجري حسابه مع الممثلين.
أهم مثال يذكر في هذا الصدد هو اقتباس شخصية فيليب مارلو (همفري بوغارت) للمؤلف رايموند تشاندلر في فيلم «The Big Sleep» أو النومة الكبرى في 1946، فقد قلبت معايير السينما عناصر الرواية. في بداية الفيلم نسخة 1946 نشاهد صورة ظلية أو خيالية لنجمي الفيلم (بوغارت ولورين باكال) يدخنان في مشهد مقدمة الفيلم، فنعلم مباشرة أنهما أهم شخصيتين في العمل.
شخصية سيلفر ويغ (هي نمطية للشقراء المومس في أفلام الجريمة لكنها تمتعت بعمق في الرواية) وكذلك نمطية في الفيلم، لكن تم تسطيحها بشدة، والنهاية المظلمة في الرواية تم قلبها إلى نهاية سعيدة في الفيلم. ما فعله المخرج هوارد هوكس وفريقه هو استعارة القصة وتغيير نبرتها بالكامل من التشاؤم إلى التفاؤل بسبب عوامل الرقابة ورغبة الجمهور وتقبله لنوعية العلاقة بين بوغارت وباكال في الفيلم.
هناك أيضاً نقطة أخرى هي أن فيليب مارلو هو أول شخص يروي القصة في رواية تشاندلر، ما يشكل مشكلة لأي محاولة اقتباس؛ لأن صنف قصص التحري يعتمد شخصية الراوي كقناة وصل بين الكاتب والقارئ، أما في السينما فالأفضل تجنبه والاعتماد أكثر على الأسلوب المباشر، وهو الصورة لإيصال المعلومة، خصوصاً لو كانت الصورة قادرة على التعبير.
هناك طرق عدة لجعل صوت راوي القصة على الشاشة عنصراً مؤثراً في العمل الفني، سواء كان بأجزاء صغيرة في لحظات مهمة كما يحدث في فيلم To Kill a Mockingbird أو باستخدامه في كل الفيلم تقريباً كما يحدث في The Shawshank Redemption أو «الخلاص من شاوشانك» وFight Club أو «نادي القتال»، لكن ذلك بالتأكيد لا يعني أن العملية سهلة لأن هذه الأعمال المقتبسة لا توظف صوت الراوي كأداة شرح فقط لكنها كذلك تأتي متوافقة مع ظروف العالم الخيالي التي توظف فيه، فمثلاً عدم تسمية شخصية حاكي القصة (بصوت إدوارد نورتون) في فيلم «نادي القتال» كانت حركة مقصودة لتعكس الطابع المخادع للقصة، ولتتوافق مع نبرة ورؤية ديفيد فينشر للفيلم.
وختاماً نتساءل: هل الابتعاد عن المصدر الأصلي خطأ فادح في عملية الاقتباس؟ ليس بالضرورة، أحياناً أخذ هيكل القصة (سكيليتون) وإضافة رؤية المخرج الفنية إليه ينتج عنه تحفة سينمائية من الدرجة الأولى. ستانلي كوبريك اقتبس رواية سياسية جادة تم التقليل من شأنها بعنوان Red Alert وحولها إلى كلاسيكية سينمائية ساخرة تسمى دكتور سترينجلاف.
| للإطلاع على الموضوع كاملا يرجى الضغط على هذا الرابط. |
الكتب والسينما وسطان مختلفان لكل واحد منهما قوانينه الخاصة، فوفاء الفيلم للمصدر الأصلي يجب ألا يكون المعيار في الحكم، بل جودة الفيلم كعمل سينمائي له خصوصيته ويتمتع برؤيته الفنية الخاصة، ونجاحه في التأثير في الجمهور هو معيار الحكم.