«روحي».. ندى وخلاصة «الحــرب اللبنانية»
من زاوية مختلفة، يتناول الفيلم اللبناني «روحي» الذي عرض للمرة الأولى في الدورة الأخيرة (12) من مهرجان دبي السينمائي الدولي، موضوع الحرب الأهلية اللبنانية، خلافاً ما تم تناوله سابقاً في أعمال بنيت على هذا الموضوع الذي يعد من القديم المتجدد، لما يحويه من حكايات لم ترو بعد.
يتناول الفيلم الذي أخرجته جيهان شعيب، قصة فتاة لبنانية (ندى) كانت تعيش في فرنسا، وقررت أن تعود الى لبنان، وزيارة منزل لها فيه ذكريات مع جدها الذي تعتقد طوال الوقت أنه بطل، لذا قررت البحث عن سبب موت الجد.
| لمشاهدة الموضوع بشكل كامل، يرجى الضغط على هذا الرابط. |
استطاعت الفنانة الإيرانية غلشیفته فراهاني التي لعبت دور الفتاة نقل كل الأحاسيس التي يتوقعها ولا يتوقعها المشاهد، من خلال أداء توزع بين نظرات عيونها وصوتها ولغتها التي تخلط بين الفرنسية والعربية، وتعابير جسدها، مع كل خيط تصل إليه، لتوصل معنى البيت لطفلة غادرته قهراً وفي جعبتها الصغيرة خيالات مرتبطة بحلويات تبحث عنها في أكياس متراصة بغرفة المأوى اثناء القصف، وطريقة لعب جدها معها طوال الوقت، وصوته الذي يزورها كل ليلة في بيت بات مهجوراً من أصحابه، وقررت (ندى) أن تعيد إليه الحياة مرة أخرى عبر ترتيبه والبحث عن التساؤلات العالقة ومحورها: «كيف مات جدها؟».
منذ المشهد الأول، يصل إلى المشاهد إحساس الخوف الذي يتملك ندى من عيونها، على الرغم من أنها تحاول طوال الوقت إظهار قوتها في أكثر من مشهد، إلا أن صوتها وعيونها يكشفان عن مدى الضعف، تشعر كمشاهد أنها خائفة من معرفة الحقيقة، حقيقة جدها، وكذلك خائفة من الناس الذين لم يرحبوا بوجودها بينهم، ولم يستسيغوا فكرة إعادة الحياة الى المنزل المهجور منذ عشرات السنين، تشعر أنها تتلمس خيالها وهي تشعل الشموع كل ليلة، وتنتظر الصباح لتبدأ بتنظيف ما آل إليه المنزل.
هذا التنظيف الذي يكشف كل لحظة عن حكاية جديدة في حياة ندى الماضية، مخربشة على الحيطان تارة، ومخبأة في صناديق تارة أخرى، إذ يبدو أنها تحاول أن «تنظف الموت والدم، والبحث عن معنى للحياة السابقة».
نور خافت
الإضاءة التي استخدمت في الفيلم قاتمة، ولحظات النور قليلة جداً، لأن الحكاية ليست مرتبطة فقط بذكريات حاضرة بالذهن، بل بكوابيس يومية تزور ندى كل ليلة، لذا تظل متوجسة طوال الوقت: من صوت سيارة اقتربت من مكان سكنها، من إجابه جدتها التي تقطن في دار العجزة عندما قالت لها «لم يعد هناك بيت»، من مراقبة فتى صغير يجلس أمامها كل صباح يرجوها أن تعطيه فرصة ليساعدها، من مواجهة بينها وبين أحد سكان الضيعة الذي صرخ بوجهها، وقال: «جدك ما كان شهيداً، جدك كان مش محترم».
هي إذاً خلاصة الحرب الأهلية التي قتل فيها الجار جاره، لكن السؤال الذي تحوم حوله ندى، يكمن في أنها تريد أن يبقى جدها «محترماً» في نظرها، فلا يمكن لرجل كان يمنحها السكاكر أن يكون مجرماً، هكذا اعتقدت، لكن الدماء التي اختلطت، الموت الذي كان ملقى في كل صوب وجانب، والهرب الجماعي من مجازر محققة.. أشياء تطغى على ذكريات صوت طفلة تجري وجدها خلفها. يتابع الفيلم التفاصيل، ويصوّر كيف كانت الفتاة ندى تغض البصر عن تعليقات جارحة كثيرة، ليس أولها الاستهزاء بعودتها، وأنها تصر طوال الوقت أن تقول: «أنا لبنانية وبيتي هون وأنا رجعت»، وعندما يتحدث إليها شخص ما بالفرنسية تقول: «ما تحكي معي فرنسي لأني بفهم عربي»، هي الهوية التي تريد مجابهة البشر بها، حتى لو كانت بينهم ذكريات لا علاقة لها بها، إذ تريد أن تؤكد أنها لم تتورط في كل هذا الدم، وهي عائدة بالحب، ومع كل دفاع عن نفسها في كل مرحلة تؤكد أن الحرب لم تنته بعد، مازال هناك من ينبش في الماضي، ولا يريد فتح الأمل للحاضر كي يكون المستقبل أجمل.
وفي الوقت ذاته هي مصرة على أن تبحث عن «المدفون»، بداية من قبر جدها، وليس انتهاء بالصندوق الذي تنتهي معه حكاية الفيلم.
تورط
إيقاع الفيلم منذ بدايته يجذب المشاهد بطريقة ساحرة، يخلق لديه الفضول كي يتتبع معه الحكاية وخيوطها، فيصبح متورطاً بشكل غير مباشر في البحث مع الفتاة عن الماضي المليء بالخوف، لكن فيه بعض «الحلويات المغلفة»، وهنا يبدو التميز في إدارة المخرجة شعيب لعناصر الفيلم كافة، ومع أن اللون الرمادي القاتم المائل إلى السواد هو المسيطر على معظم المشاهد، إلا أن ثمة نوراً سيظهر في النهاية لا محالة.
الحبكة الرئيسة في الفيلم تبدأ مع ظهور شخصية سام، الذي يلحق بشقيقته، لكن هدفه مختلف عنها، ومن الواضح أنهما لا يلتقيان كثيراً في الغربة التي اختاراها، فطريقة التعاطي مع بعضهما لا تشعر بأنهما أخوة، بل صديقان محبان، الفرق بينهما أن سام عاد بناءً على رغبة الوالد بأن يبيع المنزل، أما ندى فتريد إعادة الحياة إلى ذلك المنزل، هو المواجهة بين من قرر بالفعل الانسلاخ التام عن الماضي وقلب الصفحة، ومن يريد نبش الماضي، ليس بهدف تأجيج الكره، بل لدفنه بطريقة تليق به، كي يستمر.
تحاول ندى جذب شقيقها (أدى دوره الشاب ماكسيميليان سيويرين) إلى خربشاتهما الصغيرة على الحيطان، والتي تحمل معها ضحكات كان تملأ المكان يوماً ما، يسايرها في كثير من الأحيان، يغضب أيضاً في بعض المواقف، لكنه يحاول أن يقنعها بأن هذا المكان لم يعد يشبههما في حالتهما الجديدة.
قبل الحديث عن النهاية، من المنصف ذكر أن كل ممثل ظهر في الفيلم حتى ولو بمشهد صغير، ترك أثراً، وكان وجوده ضرورة في شكل الفيلم المبني على البحث والنبش في الماضي، فمثلاً القديرتيان
جوليا قصار، وميراي معلوف، كان لحضورهما قوة إضافية لعناصر الفيلم. وأيضاً الممثل فرانسوا نور الذي أدى دور الفتى المراهق المتربص لندى، الذي يبشر بولادة فنان شاب لديه من الأدوات ما يؤهله للحصول على أدوار مختلفة، كل هؤلاء مع محمد عقيل ونصري الصايغ وشربل اسكندر وميشيل اضباشي، أضافوا إلى الفيلم كي يبشر بنوعية سينما لبنانية مختلفة.
صراخ أخير
تصرخ ندى في آخر المشاهد كثيراً في وجه شقيقها، وفي وجه جارها، وحتى في وجه الفتى المتربص بيومياتها، هي تريد أن تصرخ لتفرغ كمية الهواء التي باتت تخنقها، إذ لم يعد لديها مكان، بشكله الذي تريد، لكنّ ثمة شيئاً مفقوداً مدفوناً في مكان ما يجب البحث عنه كي تستريح، فهي تريد البحث عن رسالة تشعر أنها خطتها بأناملها الصغيرة، وهي أساس كل الحكاية، لذلك تطلب من شقيقها البحث معها عن الصندوق الذي دفناه يوماً في حديقة المنزل، وينتهي الفيلم معه، فهي بعد أن كشفت عن أسرار جدها، تفتح الصندوق، ومع طقس احتفالي يبدآن بمشادة ما يحويه الصندوق من حكايات وألعاب وصور، لينتهي المشهد برسالة مكتوبة بدماء أصابعهما الصغيرة «نحب لبنان إلى الأبد».
الفيلم ببساطة يريد أن يوصل رسالة: لم يكن هناك أبطال في الحرب اللبنانية، وكل من كان له يد في سفك الدماء مجرم، حتى لو كان يوماً ما يقدم الحلويات لأبنائه وأحفاده، فمن تورط في الدم هو السبب لأن غادر لبنان سكانها».