«3000 ليلة» في الأسر

بعد سلسلة أفلام تسجيلية، تناولت من خلالهم المخرجة مي مصري القضية الفلسطينية، تنتقل إلى صناعة فيلمها الروائي الأول «3000 ليلة»، لتقدم هذه المرة قصة حقيقية من بطولة نسوية، تحكي الأسر والتعذيب الذي تتعرض له الأسيرات، من خلال قصة ليال التي اعتقلت عام 1980.

هذا الفيلم الذي يعرض ضمن فئة مسابقة الأفلام الطويلة في الدورة الـ12 من مهرجان دبي السينمائي، مبنية أحداثه على قصص حقيقية، لمجموعة من النساء وحياتهن في السجون الصهيونية.

سمعة وجوائز

أخرجت الفلسطينية مي مصري عدداً كبيراً من الأفلام التسجيلية التي اكتسبت سمعة جيدة في مهرجانات السينما العالية، وفازت بعدد كبير من الجوائز، ومن أشهر هذه الأفلام «زهرة القندول» (1986)، و«أطفال جبل النار» (1991)، و«أحلام معلقة» (1992)، و«أحلام المنفى» (2001) و«يوميات بيروت» (2006).

مي التي قدمت سابقاً «زهرة القندول» (1986)، و«أطفال جبل النار» (1991)، و«أحلام معلقة» (1992)، و«أحلام المنفى» (2001) و«يوميات بيروت» (2006)، مازالت عالقة بموضوع التوثيق الذي تشعر به خلال مشاهدتك الفيلم بأنها لم تخرج منه في طريقة إدارتها لحركة الكاميرا والممثلين، وهذا الأمر من المتوقع حدوثه بعد 20 عاماً في تقديم الأفلام الوثائقية التي كان جل موضوعاتها عن المرأة والطفل، لتنتقل إلى صنع الفيلم الروائي الأول الذي يتناول المرأة ايضاً، هي غيرت نوع الإدارة في الإخراج، ولم تخرج من نوعية الأفكار التي تريد طرحها، وهذا عملياً ما يميز مصري في كل محتوى تقدمه.

استطاعت مي أن تختار مجموعة من الفنانات استطعن أن يتآلفن مع نوع إدارتها الجديدة، وقدمن أدوارهن بشكل قريب الى الواقع، فبطلات الفيلم نادرة عمران وميساء عبدالهادي، وأناهيد فياض وراكين العمري، شكلن مع إدارة مي مصري قوة أدائية في تقديم شخصياتهن المتباينة، التي تجمع بينها زنازين متلاصقة وأمل.

تبدأ أحداث الفيلم مع قوات الاحتلال وهي تعتقل الشابة ليال، التي يتم استجوابها بعد عمليات تعذيب ممنهجة حول شاب قامت بنقله بسيارتها متهم بقتل جندي «اسرائيلي»، تحاول ليال إقناعهم بأنها نقلته بالفعل ليس لعلمها بفعلته، بل لأنه كان مصاباً ويحتاج إلى نقله إلى المستشفى، هذه الرواية لم تقنع ضباط التحقيق الذين يقررون زجها في المعتقل.

لتنتقل ليال بعدها إلى غرفتها التي كانت تضم مجموعة نسوة «إسرائيليات»، تهمتهن جنائية لها علاقة بالسرقة والمخدرات، وهذا التفصيل تحديداً كان لابد من المرور عليه، فوجود مثل هؤلاء النسوة نوع إضافي في طريقة تعذيب الأسيرات الفلسطينيات.

الذكاء في وصف هذا المعتقل من نظرة مي كان واضحاً بإسقاطها على شكل التمييز العنصري حتى في السجن، فمثلا الفلسطينيات مجبورات على ارتداء الزي الرسمي للسجن، على عكس السجينات «الاسرائيليات»، وهي دلالة على ما كان يفعله سابقاً هتلر مع اليهود، حيث كان يوسمهم ويجعلهم يرتدون ملابس موحدة، هنا تريد مي أن توجه خطابها للغرب بأن التاريخ يتكرر، لكن هذه المرة ليس عبر هتلر، بل عبر من تعذب من هتلر.

تدخل ليال عالم المعتقل، وهي البعيدة عن السياسة، لتعيش لحظات مختلطة، الحرفية فيها شدة واقعيتها، حيث الحرب النفسية التي تمارسها السجانات، في ضربهن تارة، وبث بذور التشكيك في ولائهن لبعضهن تارة أخرى، فكل أسيرة جديدة هي محط شك بأنها جاسوسة. تتعرض ليال لمقاومة جبهتين في المُعتقل، جبهة الجانب «الاسرائيلي» المتمثلة بضابطة التحقيق التي تحاول أن تقنعها بالتعاون معهم مقابل منحها فرصة للقاء زوجها وعائلتها، وجبهة الأسيرة السياسية منذ 15 عاماً (سناء) التي فقدت ذراعها اليسرى خلال إحدى العمليات، التي تشك في ولاء ليال في البداية، مع أن سناء تعتبر هي الأشد حنكة وذكاء ومقاومة، فهي القادرة على تمرير رسائل الأسيرات الفلسطينيات إلى خارج حدود السجن، بسبب تدريباتها المكثفة السابقة. لكن شخصية ليال بالفعل لا تتلاءم مع أي جبهة، هي شابة متزوجة حديثاً تعيش في نابلس حياة طبيعية وهادئة، وتريد الخروج من السجن، خصوصاً بعد علمها بأنها حامل، هنا تنتقل الأحداث مباشرة إلى منحى آخر، فقد استطاع الجانب «الإسرائيلي» بث الشك أيضاً في قلب زوجها بأنه يجب أن يتأكد من نسب جنينه، خصوصاً بعد أن رفضت ليال اعتماد الرواية الصهيونية باتهام الشاب بأنه هددها، كي تستطيع التخلص من الأسر، فيتم الحكم عليها بقضاء 10 سنوات، أي «3000 ليلة»، ويقرر زوجها تركها والسفر إلى كندا.

تدرك ليال بعد كل هذه الضربات أنها ستعيش الأمل من خلال نمو جنينها في بطنها، هذا الجنين الذي حاول الطبيب «الاسرائيلي» إقناعها بضرورة اجهاضه، لكنها أصرت على ولادته، وقد انتقلت إلى عنبر الأسيرات الفلسطينيات، وتعايشت معهن، بينهن سناء، وطالبتان في مدرسة، وأم لأطفال مستعدة لأن تفعل أي شيء لرؤيتهم، حتى لو كان عن طريق تسريب أخبار زميلاتها في المعتقل الى ضابطة التحقيق.

تنجب ليال طفلها، وتطلق عليه اسم (نور)، بعد مشهد مؤثر جمع الأسيرات وهن يغنين «يا ظلامَ السّـجنِ خَيِّمْ إنّنا نَهْـوَى الظـلامَا، ليسَ بعدَ الليل إلا فجـرُ مجـدٍ يتَسَامى».

ستعيش كمشاهد يوميات السجينات مع الفرد الجديد (نور)، وكأنك بالفعل تشاهد فيلماً تسجيلياً، ستعيش ضحكتاهن، وحزنهن، وطريقة تعذيبهن، لكنك ستعيش انسانيتهن أيضاً، وهنا لابد من المرور على مشهد جمع بين ليال وسجينة «إسرائيلية» شالميت، التي كادت تموت في السجن بسبب جرعة مخدرات زائدة وأنقذتها ليال، فأصبحت شالميت منحازة لها ولمجموعتها، تنقل إليهن الأخبار، خصوصاً بعد مجزرة صبرا وشاتيلا، التي تسببت بفي إضراب عام قامت به الأسيرات، وتسبب بفي استشهاد فتاة بينهن لم تصل إلى عمر 17 عاماً.

فترة هذا الاضراب هي الفترة نفسها التي أصبح فيها عمر (نور) عامين، وكان عليه الرحيل من حضن أمه، كل هذه التفاصيل جعلت ليال تنتقل من فترة الهدوء والاستسلام الى الصلابة والمقاومة ومساعدة سناء على كل خطة تقوم بها، فليال لم تعد تلك الفتاة الصغيرة، بل باتت أماً لطفل تريد رؤيته، وعاشقة لأسير فلسطيني جمعتهما قصة حب عندما كانت تلتقيه أثناء علاجها وهي حامل وعلاج ابنها، فثمة أمور حاضرة تجعل من ليال تريد الحياة أكثر.

تمر الأيام على ليال والأسيرات، حتى يخرج أول اتفاق تبادل أسرى، يكون اسم سناء من بينهن، وتبقى ليال مع مجموعة من الصبايا الصغيرات، تعتني بهن، وينتهي الفيلم بمشهدين، الأول عندما يسقط المطر وتقف ليال تحته وكأنها في مشهد تعميد، وتفتح بوابة الأسر، وتلتقي ابنها الذي اصبح عمره 10 سنوات، لتنتقل مباشرة كاميرا مي مصري إلى صور توثيقية لمجموعة من عمليات اعتقال الفلسطينيات مع أبنائهن، لتوصل رسالة الى الغرب قبل العرب، أن الأسر مازال مستمراً.

الأكثر مشاركة