فيلم «أمور» حكاية عميقة عن الموت والرغبة في الحياة. أرشيفية

«أمور».. الحب لا يقتله الموت الرحيــم

يستمعان إلى الموسيقى، ويستمتعان بالقراءة، وحضور الحفلات الموسيقية، وعلى تواصل بابنتهما المتخصصة أيضاً بالموسيقى الكلاسيكية، هذه هي حياة الزوجين جورج وآن المتقاعدين الكبيرين في السن، أو بالأحرى هكذا يفهم المشاهد هذه الحياة في النصف الأول من فيلم «أمور» او بالعربية «الحب» الذي حصل على أوسكار فئة أفضل فيلم أجنبي أخيراً، وهو للمخرج النمساوي مايكل هانكه وبطولة الفرنسيين «ريفا ايمانويل وجون لويس ترانتيجنون» ويعرض حالياً في دور سينما اماراتية.

حول رغبة الموت والتمسك بالحياة في اللحظة نفسها، حول التفاني في العطاء واتخاذ قرار قد يلغي كل المعادلة، عن حب واحترام عمره عشرات السنوات، عن قرار يتخّذ والمشاهد لايزال مندهشاً ومتعاطفاً غير ناقم، كل هذه المشاعر ظهرت في الفيلم الذي أعاد للسيناريو الأوروبي حضوره.

حياة موسيقية

لمشاهدة المزيد من المواضيع عن الفن السابع، يرجى الضغط على هذا الرابط.

بين اسطوانات الموسيقى الكلاسيكية وبين عزف منفرد تقوم فيه «آن» وبين دعوات لحضور الأوركسترا والأوبرا، لا يمكن ملاحظة أي تعقيد يحوم حول هذا البيت الواسع المملوء بالكتب والاثاث الفرنسي الأنيق. انهما ببساطة زوجان طاعنان في السن متقاعدان لا يعيشان خارج الزمن بل يعيشان خارج الحياة، في ذلك المكان الذي لا يوجد إلا في سيناريو الأفلام الفرنسية التي تعلن أن الفرنسيين هم «الاستثناء الثقافي» للعالم.

تفاصيل

وحيدان أو منقطعان عن العالم باستثناء زيارات ابنتهما أو اجراء مكالمات هاتفية معها، يعرفون أن ما تبقى من عمرهما لن يكن بقدر الذي ذهب، لذلك هما متأنيان في كل شيء حتى في اختيار فستان الاستقبال أو ببيونة الحفل، يريدان أن يعيشا بين الموسيقى فقط، هذا الرتم البطيء قد يشعر المشاهد ببعض الملل، يكسره ربما محاولة شخص اقتحام منزلهما بغرض السرقة، وهي أول إشارة تزعزع كل هذا الاستقرار، وكانت هذه الحادثة جاءت لتضيف حركة في منزل لا تصدح منه سوى أنغام الموسيقى وصوت الشوك والسكاكين اثناء الطعام، تظهر «آن» كأنها تدعي الخوف لتحول الحادثة إلى قصة كبيرة تحكي عنها، هي بحاجة الى أن تحكي، فالصمت على ما يبدو آن له أن يصرخ، فلا يتردد الزوج في الانصياع إلى هذا الخوف ويعود بدور الرجل الذي يريد حماية زوجته، ويكتفي فقط بإحكام غلق الباب من دون حتى ابلاغ الشرطة، فهما طيبان، وفي داخلهما كانا شاكرين لهذا الحدث الذي أضفى صخباً ولو لمدة قصيرة.

ففي هذا الوقت لا يعرف المشاهد ماذا سيحدث لاحقاً، هو امام زوجين مثاليين محترمين لا ينطقان ولا كلمة واحدة فاحشة أو عبارة بذيئة، مع حضور اشارات وهمية تصور تفاصيل حياتهما كأن الكبت شعارها وقلة العاطفة عنوانها.

منطق الأسلوب

كل هذه التفاصيل سابقة الذكر جاءت عملياً، بعد المشهد الافتتاحي للفيلم، وقد ظهر جورج كأنه يقتل زوجته «آن»، مشهد وضعه المخرج كي يجعل المشاهد دائم الشك في نية الزوج، ويحاول بناء المشاهد كي يؤكد أن الزوج لا يستحق العطف على الرغم من كل الحب والموسيقى اللذين يملآن البيت، فبعد المشهد الأول يعود المخرج بخاصية «الفلاش باك» لذكر تفاصيل حياتية عاشها الزوجان معاً.

الإشارة الثانية

لو توقف جورج عند قصة محاولة اقتحام منزلهما، لكان سير الحياة ظل على بساطته ورتابته، لكنه لم يتوقع أن تقحم حياته إشارة ثانية ستقلب بيته وسكونه رأسا على عقب، فـ«آن» العجوز الجميلة ذات الأصابع الطويلة التي تلعب على مفاتيح البيانو بخفة وألق، تصاب بسكتة قلبية، وجراحة تفشل معها كل المحاولات بأن تعود آن مشياً على قدميها، هي مشلولة الآن على جانب واحد وكرسي متحرك، تعود إلى بيتها الذي تسميه وطنها بعد غربة حسب تعبير عيونها قضتها في المستشفى، تعود لترى جورج الى جانبها وابنتهما، لا تعابير ولا قدرة على الكلام، وطبعاً لا جلوس خلف البيانو، كل شيء انهار فجأة، ردة فعل الابنة وخوفها وغضبها، والأب المكابر الذي لا يريد التفكير الا في اللحظة، مشاعر تنقل أحداث الفيلم من الهدوء الى الصخب، تنفعل معها مشاعر المشاهدين، خصوصاً عندما تحاول «آن» التكلم وتكون جملتها بطلب وعد من جورج الا يعيدها الى المستشفى، مع نظرة توسل، وإيحاء بأنها على استعداد للموت وعليه أن يسمح لها بذلك.

وهذا الإيحاء أو الفهم بين زوجين قضيا عشرات السنين مع بعضهما هو الذي سيكشف كل خيوط مشهد القتل الافتتاحية.

وإلى أن تحين هذه اللحظة، يقوم جورج بكل ما بقي من طاقته كي يهتم بزوجته العاجزة، من تحضير الطعام لها وإطعامها وإدخالها إلى الحمام والعناية بنظافتها، وحتى سماع الموسيقى معاً.

تبرير البداية

لا شيء يبرر القتل، هذا صحيح، ولكن الطب وأصحاب المواقف الأخلاقية لايزالون على حيرة من أمرهم بما يسمى «الموت الرحيم» فبعد ساعة و‬40 دقيقة من مدة الفيلم التي تقترب من الساعتين، سيكون المشاهد أمام زوج يعتني بزوجته الحبيبة العاجزة، المشاهد وصل إلى مرحلة بدأ يتعاطف مع جورج كأنه يتواطأ معه بشكل غير مباشر مع أي قرار سيأخذه، وهذا ذكاء من المخرج الذي أدخل المتلقي إلى تفاصيل الحبكة، فالمشاهد جلها صورت في المنزل، بكاميرا على الأغلب ستكون واحدة، تنتقل من زاوية إلى زاوية، إضاءة تسلط على العيون والرجفان الذي لا علاقة له هذه المرة بالعمر، إلا أن يأتي المشهد الذي يعتبر الحاسم بين كل تفصيل تم ذكره في الفيلم، «آن تتألم بكبرياء وعزة امرأة لم تعرف سوى الحب والموسيقى، يجلس الى جانبها جورج يمسك بيدها، يؤكد لها أنه معها، وأن كل شيء على ما يرام، لينتقل بحديث عن الخوف ليشغلها عن ألمها، تخف تأوهاتها، لكنه لم يعد يحتمل أكثر».

بين الموت والحياة

في نهاية الفيلم الذي يكشف عن تفاصيل بدايته، المشاهد قد يتورط اخلاقياً مع قرار جورج بإنهاء حياة «آن»، في عينيه يتضح أنه يعرف زوجته أكثر من أي شخص أو أي حكم، هو أخذ الاشارة منها، هي تريد الموت كي يرتاح جسدها من العجز والألم، تأتي الكاميرا على يديه، وجهه اختفى تماماً عن المشهد، يمسك في الوسادة، والشيء الوحيد الظاهر في الكادر هي ساق «آن» وهي تقاوم الموت، مشهد مخيف ومؤلم على درجة ألم «آن» نفسها، قد تكون على استعداد للموت لكن هذا لا يعني أنها على استعداد لوقف حياتها، فحركة ساقاها تؤكد هذه المعادلة، في المقابل، جورج وسلوكه الراقي طوال الوقت مع زوجته التي يحبها، لا يريد سوى انهاء كل هذا البؤس، في تحدٍ لأي موقف معترض قد يصدر من الجميع.

الأكثر مشاركة