كـل الحروب عادلة علــى الشاشة

العالم مملوء بالعنف، متخم به، يكاد يفيض عنه إلى عوالم أخرى إن وجدت، ومع ذلك نبحث عنه على الشاشة الكبيرة، وليكون على شيء من العوامل المغرية لمشاهدة أفلام يمكن لتوصيف العنف أن يكون أداة للتصنيف أو توصيف الفيلم، كما درج أحياناً على ترجمة كلمة «أكشن» التي لها أن تكون أكثر دقة من ترجمة أخرى مثل «أفلام الحركة والإثارة»، والتي يكفي في حراكها التجاري أن تضعنا حيال كومة من الأفلام التي تنتج شهريا تتمركز حول معاناة أحدهم وتعرضه لظلم ما أو اي شيء آخر يشكل دافعا لمضيه خلف حفنة من الأشرار تسببت بالأذى له أو عائلته ومن ثم تحوله بين ليلة وضحاها إلى ثائر منتقم، هذا عدا من يكونون معدين مسبقا لهذه المهمة على اعتبارهم من أولئك الأبطال أصحاب العضلات المفتولة، وصولاً إلى الحروب بما ينقلنا من الفردي والشخصي إلى الدول والأمم، حيث يمكن لفيلم أن يقلب كل المفاهيم ويقدم لنا معارك وحروباً بوصفها ذات دوافع عادلة، وليس لنا إلا أن ننتظر النصر.

مقاربة الأفلام في هذا السياق ستجعلنا على مقربة من علم النفس هذه المرة، وتحديدا ايريش فروم وبحوثه في تاريخ العنف البشري بحيث نلاحق الأفلام على هدي نظرياته السيكولوجية، بعيدا عن سذاجة الأفكار التي تتمحور حول ثنائية الخير والشر كما لو أن هاتين الصفتين تولدان مع الإنسان دون أية اسباب، أو إحالتها إلى أفكار غيبية، وليطل علينا في الحال منطق الأفلام الأميركية التجارية حيث حفنة من الأشرار تهبط علينا من حيث لا ندري وليس على البطل صاحب العضلات المفتولة إلا القيام بقتلهم جميعا، كما هي الحال من سلفستر ستالوني وأرونولد شوارزينغر وآخرين، وصولاً إلى تحويل شعوب بأكملها من بشر إلى ذباب، يمكن لرشاش أن يدعنا نراهم يسقطون بالعشرات.

منطق الشاشة عجيب، بحيث من البديهي أن نتفاعل مع كل ذلك، دون أن نحمله الكثير الأفكار، إنها فسحة للمتعة والسلام، لكن ما الذي سنفعل بكل هذا العنف حين يكون معادلاً واقعياً، وعلى مبدأ التبادل الأبدي بين الفن والواقع، كما أن أفلاماً مثل Natural Born Killer (قاتل بالفطرة) 1994 لأوليفر ستون أو Funny Games (ألعاب مسلية) لمايكل هنكه وبنسختيه الالمانية والإنجليزية تضعنا أمام ما له أن يكون بحثا في العنف، الأول يأتينا من جهة القاتل ميكي حين يصير نجماً والثاني من جهة الضحية وهو يسعى ليجعلنا نشعر بآلامها بعيداً عن أن تكون الطلقة مجرد صوت يصدر عن سلاح ناري تصيب أحدهم فإذا به على الأرض ويمكن للصباغ الأحمر أن يجعلنا نرى دما لا معنى له في النهاية، الأمر الذي يمتد إلى نشرات الأخبار التي تجعل المشاهد متصالحاً مع القاتل والقتيل لكثرة ما يرى تلك الصورة متكررة والفاصل بينه وبينها تلك الشاشة.

في ما تقدم معبر أولي لما أنوي القيام به، والذي يقود إلى بحث طويل في هذا السياق، لكن يمكن تفسير ما قدمه المفكر ايريش فروم وهو يفسر النوازع البشرية للعنف وحركة التاريخ في تتبع الأفلام أيضاً التي تبدو أولاً كما لو أنها تتمركز حول الجدل بين أن البشر خراف أم ذئاب، الثنائية التي بنى عليها فروم جدله في كتابه المعنون «جوهر الإنسان»، والذي سيقودنا هنا إلى استخدام الكثير من أفكاره على أفلام تتشكل حولها.

سأستخدم مصطلحا من مصطلحات فروم له أن تتأسس عليه أفلام العنف بشكل اساسي والتي تبني على انحياز للحياة وإن كان القتل هو ما يحدث بها، وهنا يحضر مصطلح أو مسمى من مسميات الانتقام التي عمل عليها فروم ألا وهو «العنف الارتكاسي» بعد أن قسم مواجهات البشر إلى «متلازمة انحلال» يعبر عنها بـ«حب الموت» والتي يقابلها «متلازمة نمو» تمتاز بـ«حب الحياة»، وللعلم يعاني البطل في الأفلام الأميركية على الدوام من «العنف الارتكاسي» والذي يعني «العنف المستخدم في الدفاع عن الحرية والكرامة والملكية، سواء الخاصة بالمرء نفسه أم بالآخرين، وهو متجذر في الخوف، ولهذا السبب تماماً قد يكون أكثر أنواع العنف وجوداً. وقد يكون الخوف حقيقياً أو متخيلاً، واعياً أو غير واع، إن شكل العنف هذا يخدم الحياة، وليس الموت، وهدفه البقاء وليس التدمير»، وفي إحالة ذلك إلى الأفلام فإن العنف الذي تنخرط فيه شخصية من الشخصيات يكون دائماً متأسساً كحالة دفاعية، وقيمة حياتية بمعنى أننا نرى البطل يقتل ليواصل الحياة هو ومن يحب، وحين يفشل في انقاذ حبيبته على سبيل المثال يمسي الانتقام فعل كرامة، وبالتالي يكون المشاهد في حالة تعاطف لأن الفيلم ودوافع الأفعال تكون مبنية وفق ما يشكل حالات انسانية موجودة في أعماق المشاهدين لكنه لم يخض يومياً تجربة مماثلة لتلك التي يراها، وبالتالي فإنه يرى نفسه سيقدم على ما قام به البطل نفسه لو تعرض لمثل ما تعرض، خصوصا إن اتيح له امتياز القدرات الخارقة التي يحتكم إليها ذلك البطل.

وفي المضي مع ما يحلله فروم تمسي الشعوب والأمم خاضعة لمفهوم «العنف الارتكاسي» وأوضح بالاقتباس التالي «لا يرتكز الإحساس بالتهديد والعنف الارتكاسي الناتج غالبا على الواقع، بل على التلاعب بالعقل البشري، حيث يقنع القادة الدينيون والسياسيون أنصارهم بأنهم مهددون من قبل عدو ما، ليطلقوا بذلك استجابة ذاتية لعدوانية ارتكاسية، ومن هنا فإن التمييز بين حروب عادلة وغير عادلة، هو ما فعلته الحكومات الرأسمالية والشيوعية كما دعمته الكنيسة الكاثوليكية»، هذا واقعي جداً وسينمائي أيضاً، ويكفي أن نضع الحروب الأميركية والكيفية التي قدمتها بوصفها حروباً عادلة لنعرف ما المقصود بما تقدم، فعلى سبيل المثال قدمت الحرب فيتنام في مئات الأفلام كما لو أن الأميركي معتدى عليه من قبل الفيتناميين وليس العكس صحيحاً، لا بل إن أفلاماً لا حصر لها بدا فيها أن الفيتنامي هو من يجب قتله بلا رحمة كما لو أنه هو من يحتل أرضه وليس الجنود الأميركان وعلى رأسهم رامبو إلا في مهمة تتمثل في تخليص البشرية من هؤلاء الأشرار، إلى أن جاءت أفلام تعد على أصابع اليد الواحدة خرجت عن السياق كما هي الحال مع «القيامة الآن» لكوبولا أو «بلاتون» لأوليفر ستون، وما عدا ذلك يمسي الأمر ليس إلا حرباً عادلة وفق معايير ترويجية تقلب الحقائق وتقدم سردا خيالياً يخدم العنف الارتكاسي.

طبعاً هذه الأداة تستعمل على الدوام في حشد البشر ضد بعضهم بعضا، بحيث تكون الحروب التي تخوضها البشر حروباً دفاعية على الدوام، إذ لا يمكن أن تكسب التأييد وأانت تقول أن أخوض حربا عدوانية، فأنت تحشد حين توهم البشر بأنك تدعوهم للدفاع عن أنفسهم، وعلى هذا الأساس تأسست تاريخياً التبعية العاطفية للقادة والأنظمة السياسية في ارتكاب الفظائع.

الأكثر مشاركة