وودي آلن.. شـاهدوني كل سنة مرة
على مشاهدة أفلام وودي آلن أن تخضع لترتيب خاص ربما، بما في ذلك الكتابة عنها، وبالتأكيد فإن فيلماً يعرض لهذا الكائن السينمائي له أن يمر في دور عرضنا المحلية مروراً عابراً وسريعاً، وسيمنحنا في الوقت نفسه فرصة الكتابة عنه بأثر رجعي، بمعنى أن الفيلم الذي سنعرض له اليوم هو فيلم Whatever Works «أي شيء يجدي» إن صحت الترجمة، وهو انتاج العام الماضي وقد عرض منذ أسبوعين محلياً، بينما تناولنا منذ أكثر من شهرين جديد آلن You Will Meet a Tall Dark Stranger «ستلتقي غريباً طويلاً أسمر اللون»، الذي عرض ضمن البرنامج الرسمي للدورة 63 من مهرجان كان.
تضعنا هذه المفارقة أمام شيء لافت، يتمثل في أن فيلم «ستلتقي غريباً» دفعنا للقول إنه لا جديد لدى وودي آلن، هو الذي يصنع فيلماً كل سنة، قد بلغ الآن الخامسة والسبعين من العمر، لا بل إن الأمر يتعدى ذلك في نطاق بحثنا عما ميز سينما آلان الذي لم نعثر عليه أيضاً في ذاك الفيلم، بمعنى أنه أي هذا الفيلم خالٍ أيضاً مما تعودنا عليه وما يمثل تكراراً مستحباً له أن يشكل في النهاية أسلوب آلن نفسه، حيث الكوميديا المبنية على أزمة وجودية مع تنويعات لا تفارقها العبثية، وعلى شيء من تدفق الأفكار التي تتشكى وتتذمر من كل ما صيغ عليه هذا الكون البائس، طبعا هذا ملمح من ملامح أفلام آلن، التي بقيت مفتوحة ايضا على عوالم كثيرة أخرى، ولنا في أفلامه الأخيرة ما يضيء ذلك، أو ما يمكن أن نطلق عليه مسمى أفلام آلن الأوروبية «سكووب» 2006 و«ماتش بوينت» 2007 و«فيكي كريستينا برشلونة» 2008 وغيرها، وخصوصاً أن آلن ما عاد يظهر أمام الكاميرا، مكتفياً بالوقوف خلفها.
الإحساس الذي يمنحه فيلم «ستلتقي غريباً» سرعان ما يبدده «أي شيء يجدي»، ولعل نتيجة البحث عن اسلوب آلن المعهود وأدواته الكوميدية ستكون نتيجته العثور على الكثير منها في «أي شيء يجدي»، لا بل إن هذا الفيلم سيكون «آلني» كثيراً، ويشبه عشرات الأفلام التي صنعها في ما مضى، وعلى صعد كثيرة.
أول ما يدفعنا لاعتبار «أي شيء يجدي» محملاً بالكثير من السيد آلن هي شخصية الفيلم الرئيسة بوريس، والأداء الذي قدمها فيه لاري ديفيد ولعبها على طريقة آلن نفسه الذي كان يكتب ويخرج ويمثل، لا بل إن بوريس شخصية الفيلم الرئيسة يمضي في مخاطبة المشاهدين من البداية، ويخبر أصدقاءه بأن هناك من يشاهدنا الآن، وعليه يقف أمام الشاشة ويمضي في رواية حياته، وبمشهد شبيه تماماً بما قدمه آلن في فيلم سابق له بعنوان «وردة القاهرة البنفسجية» انتاج عام 1985 وليقدم بوريس بسرده قصة حياته، هو عالم الفيزياء، المتخصص تحديداً بالفيزياء الكونتية، الذي رشح مرة إلى جائزة نوبل، وإضافة إلى كونه في السابق متزوجاً من امرأة ثرية سرعان ما يطلقها لأنها كاملة لا عيب ولا نقص فيها، الصفة التي تكون كافية لهجرانها وبدء حياته من جديد بعيداً عنها وهو كاره لكل شيء، ولذلك أسباب عدة بالنسبة لبوريس، كأن نقرأ في الصحف عن مقتل الآلاف في رواندا أو غيرها من بلدان بينما نتناول فطورنا كما لو أن شيئا لم يحدث، وصولاً إلى استعارات فلسفية وادبية كثيرة تحتشد عادة بها أفلام آلن، كاستعادة مونولوج العقيد كرتيز في رواية جوزيف كونراد «قلب الظلام» وهو يردد «الرعب الرعب» العبارة التي مازال يتردد صداها كما قالها مارلون براندو في فيلم كوبولا «القيامة الآن» المستوحى من رواية كونراد.
ستتدافع جمل بوريس، ولن يتوقف عن الكلام والاستياء من كل شيء، سيتحول إلى معلم للشطرنج، يقوم بتوبيخ الأطفال الذين يعلمهم إن أقدموا على حركة خاطئة، بينما يواصل حياته وهو متذمر منها ومن كل ما يحيط بها، إلى أن يرى فتاة نائمة عند عتبة بابه، يقبل أن تبيت عنده لليلة واحدة على مضض، فهي فتاة اسمها ميلودي (راشيل وود) في أوائل العشرينات من عمرها، هاربة من اسرتها وتسعى إلى حياة جديدة في نيويورك، هي القادمة من الجنوب، التي سرعان ما تأسرها شخصية بوريس، ولتتغير حياة بوريس في استجابة لحضورها، ومن ثم الزواج منها، هو الستيني الذي تجد فيه ميلودي حب حياتها رغم كل شيء، وليستسلم بوريس لذلك، إلى أن تأتي أم ميلودي التي تكون قد هجرت زوجها وجاءت لتبحث عن ابنتها.
إنها نيويورك في النهاية التي ستغير حياة أم ميلودي نفسها التي تكون محافظة فتتحول إلى فنانة متمردة تعيش علاقة مزدوجة، وتمارس كل ما كانت تعتبره مداناً، وفي أثناء ذلك تسعى لإيجاد عشيق شاب لابنتها الأمر الذي ينجح في النهاية من خلال ممثل وسيم. التغير الذي يطال الأم سيطال والد ميلودي أيضا، الذي يأتي نيويورك للبحث عن زوجته، فيصاب أيضاً بتغيير جذري يتمثل في تحوله إلى مثلي.
كل ذلك يقدم وفق المسارات المعهودة في آليات سرد آلن الكوميدية والرشيقة، بما يتيح في النهاية لكل شخصية العثور على نفسها، بما في ذلك بوريس الذي يحاول الانتحار للمرة الثانية بعد أن تهجره ميلودي، فيرمي بنفسه من النافذة فيقع على امرأة مارة بالشارع تنجيه من الموت ويقع في حبها، وليعود بوريس في النهاية إلى مخاطبة المشاهدين وهو يقول إن أي شيء قد يجدي مادام نستطيع من خلاله مواصلة الحياة.