«جميل» فيلم يتحرك في مدارات عدة. أرشيفية

«الاشتراكية» تتجوّل على شواطئ «كان»

ثالوث سينمائي هبط، أول من أمس، على مهرجان «كان»، مسبوقاً بترقب ممتد من أول أيامه، وقد كان على المتابع للدورة الـ63 أن يردد ثلاثاً: جان لوك غودار وعباس وأليخاندرو غونزاليس أناريتو، وفي البال أيضاً شعور مؤكد أن دورة هذا العام قد بدأت في ذلك اليوم، وعلى هؤلاء ومن سيتبعهم في الأيام المقبلة، أن يخففوا من وطأة الأفلام العادية والمهادنة التي شاهدناها، باستثناء أفلام مثل فيلم التشادي محمد صالح هارون «رجل الصراخ» و«عام آخر» للإنجليزي مايك لي و«تشونغكويغ بلوز» للصيني وانغ تشياوشواس.

حسناً.. لنمض مع أفلام الثلاثة الكبار، ولنبدأ مع المكسيكي أناريتو وفيلمه Beautiful (جميل) خارجاً من «بابل» ومستقراً هذه المرة في برشلونة وهو يقول سأقدم فيلماً ذا خط درامي واحد، والتركيز سيكون على شخصية واحدة فقط، لقد أنهكه تنوُع «بابل» وتشابك اللغات والخطوط الدرامية، لا يريد لأن يكون الزمن متقطعاً، منفصلاً ومتصلاً، يعود ويتقدم كما في «21 غراماً»، ولعل عنوان جديده وبعبارة واحدة وصريحة اسم على مسمى، فالجمال ما سيطالعك به هذا الفيلم، ستضبط كل عناصره متلبسة بهذا الجمال، وسيكون الفيلم على هيئة اقتحام لعوالم برشلونة السفلية، وتحديداً في سانتا كولوما، إذ يقطن «التشرينغو» المسمى الذي يطلق على المهاجرين الفقراء وأولادهم، إنه حي خليط بين الصينيين والعرب والإندونيسيين وآخرين، إضافة لمن قام فرانكو بتهجيرهم من كاتالونيا عام ،1930 ولنكون أمام خليط اجتماعي وقع في غرامه أناريتو.

مدارات

فيلم «جميل» يضعنا مباشرة مع اكوبال ومن غير خافيير بارندوم سيجسد هكذا شخصية، وأناريتو يقول إنه طيلة كتابة الفيلم كان بارندوم هو اكوبال والعكس صحيح، وبكلماته «أحب أن يكون الفيلم على قدر كبير من الكمال، أو ما اعتبره كمالاً، ولعل خافيير بارندوم يشاركني ذلك، إننا وإياه مثل جائع للكمال ألتقى بمن يتضور جوعاً إليه»، ولعل ذلك بات بقوة في الفيلم، وتحديداً أن كل الأحداث متمركزة حول شخصية أكوبال، وليأتي الفيلم متحركاً في مدارات عدة، منها علاقة الأب بأولاده، خصوصاً أن هذا الأب يتبوّل دماً وسرعان ما يكتشف مرضه بسرطان البروستات، وهو يلعب دور الأب والأم مع ابنه وابنته وفي تأرجح بين النجاح والفشل، وعلى يشبه تراوح علاقته مع زوجته، التي ما أن يبعدها عن ولديها حتى يعيدها إليهما وهي تقترف من الحماقات ما يجعله حريصاً على مسافتها مع ولديهما ومن ثم استجاباته المتناوبة لأمومتها بالنسبة إليهما، والتي سرعان ما تضرب بها عرض الحائط بارتكابها حماقة أو ما يشيء للثقة التي يهبها إياها.

البيئة التي تجري فيها أحداث الفيلم مركزية في الفيلم، إن أكوبال يعمل في توريد العمالة الأجنبية «غير الشرعية»، الصينيون هم أكثرية تلك العمالة، ومن هنا ستتأتي دراما مجاورة لدراما أكوبال وعائلته، مجاورة ومشتبكة معها، هو الذي نشأ وترعرع في حضن هذا الخليط العرقي، والذي يسعى أن يكون انسانياً معهم بالقدر المتاح، ونحن نرى كيف تعاملهم الشرطة الإسبانية، كيف تطفو جثثهم وترمي بها أمواج البحر على الشاطئ، لكنه هو أيضاً من سيرى بأم عينيه كيف يموتون في قبو لا لشيء إلا لأنه سعى إلى شراء أرخص مدفأة تعمل على الغاز، فكانوا صباحاً قد اختنقوا بالغاز وهم نيام.

صفعة

فيلم محكم آخر يقدمه لنا أناريتو، لا بل أمضى وأشد إحكاماً من أفلامه السابقة، إنه لا يمهل المشاهد، البداية مدهشة، الخاتم الذي يتحدث عنه يعود وينتهي به الفيلم، إنه في غابة مغطاة بالثلوج وبومة ميتة أمامه، وما بين البداية والنهاية سنكون مع دراما متسقة، متصاعدة بهدوء، وإيقاع أقل توتراً من«بابل» و«21 غراماً»، لكنه مشدود متحفز، وعلى مسار واحد يأخذنا بالتأكيد لنكون في صدد أهم أفلا المسابقة الرسمية حتى الآن. جان لوك غودار وصل الـ70من عمره وهو يأتي بجديده Socialism Film «فيلم اشتراكية» ليعرض في مسابقة «نظرة ما»، وعلى شيء يدفعنا ربما إلى تتبع «الاشتراكية» على شواطئ كان، وبرفقة أحدث ما توصلت إليه الموضة في الأزياء والسيارات وكل شيء، «اشتراكية» يحيط بها الإدعاء من كل جانب وهي تعبر على سجادة حمراء وآلاف الفلاشات تلمع في وجهها، «اشتراكية» يريد لها غودار أن تكون صفعة في وجه كل ما تقدم، هو الذي لم يحضر المؤتمر الصحافي الخاص بفيلمه، لا بل لم يأت إلى كان.

هذه الاشتراكية يمكن لها أن تظهر في إخراج الفيلم ربما، طالما أن غودار اعتمد ما أطلق عليه «لجنة المخرجين» مؤلفة من تسعة أعضاء، من بينهم المخرج المصري يسري نصرالله، ولنشاهد الفيلم والأمر مفتوح على شتى التوقعات مادمنا أمام فيلم لغودار وحرصه على تقديم جرعات متشظية لها أن تكون فعل تشظية لتاريخ أوروبا نفسها وكل ما عصف ويعصف بهذا العالم، وتاريخ طويل لهذا المخرج الطليعي الذي لم يقدني إلى أن أكون غودارياً إلا «على آخر نفس».

المقاطع في «فيلم اشتراكية» تلتقط أنفاسها الأخيرة، الفيلم مقسّم بالتأكيد إلى فصول متدافعة ومتصارعة، تحمل عناوين مثل «رحلة متوسطية» ،«بين المسافرين»، وصولا إلى «زيارة ستة مواقع للأساطير الحقيقية أو المزيّفة: مصر، فلسطين، اوديسا.....» ولتظهر فلسطين في صورة بالأبيض والأسود للمدينة على الشاطئ ومن ثم صورة أخرى لشجرة زيتون، ولتكون مسبوقة بامرأة تقرأ بعربية ركيكة «آه يا وطني لقد اضعتك»، وكذلك الأمر مع مصر الأهرامات وتمثال فرعوني والسلام.

الخيط الذي يفترض أن يكون ناظماً للفيلم يتمثل بإقامة أخ وأخته محكمة لوالديهما قادمة من طفولتهما، وهي بخصوص مفاهيم مثل العدالة والمساواة وغيرها، لكن كيف لذلك أن يتضح والترجمة إلى الانكليزية أكثر من مبعثرة لمقاطع حوارية طويلة في الفيلم، وليقابل الحـوار ببضع عبارات بالإنجليزيـة، وعليـه فإن كل إدعاء بأن ما أراد غـودار قـوله في ذلك الفيلم قـد وصلني، سيكون ضرباً مـن المعجـزة، في زمـن يكاد يخلو مـن المعجزات، كأن أتعلم الفرنسيـة في خمسة أيام.

لعبة سينمائية

مساءً حضر عباس كياروستامي بفيلم Certified Copy (نسخة طبق الأصل) الذي لم يكن خارجاً من «بين أشجار الزيتون» ولا باحثاً عن«طعم الكرز»، بل قادم من إيطاليا وتحديداً من قرية اسمها «توسكانا»، والفيلم حواره بالإنجليزية والفرنسية والإيطالية، ويطالعنا فيه وجه جوليت بينوش محتشداً بالتعابير ونحن نشهد لعبة سينمائية على الطريقة الكياروستامية، لنكون أمام الأصل ونسخة مطابقة له، وعلى شيء من الحركة في المسافة الفاصلة بين المفهومين، بين رجل وامرأة، في الخط الملتبس بينهما حين يكون الزواج ثالثهما. بناء الفيلم يندرج تحت عنوانه، إنه كاتب إنجليزي (وليام شايمل) يوقع كتابه في ايطاليا، عنوانه «نسخة طبق الأصل»، على شيء من البحث عن الأصل في الفن والنسخ المترتبة عنه، بتجاورهما وتطابقهما، ما يجمعهما وما يفرقهما، وليلتقي بامرأة فرنسية (جوليت بينوش) صاحبة غاليري، ويمضي الفيلم خلف العلاقة التي تنسج بينهما، واتفاقهما غير المتفق عليه بأن يكونا زوجين مضى على زواجهما أكثر من 15 سنة، خصوصاً لدى توجههما إلى قرية توسكانا الايطالية، إذ توجد شجرة مذهبة يقصدها العرسان الجدد ليقسموا تحت ظلها على الوفاء مدى الحياة، وتوظيف كل ما يحيط بينهما لإضاءة ما يعتري العلاقة من صعود وهبوط، من ذكريات ومستجدات، وكل ما يحيط بهما يكون لمتزوجين جدد، كذلك الأمر بالنسبة لأزواج في آواخر العمر، وكل ذلك في تصعيد مبني بدقة وشغف، وفي اتخاذ الحوار معبراً نحو تكثيف العلاقة التي لها أن تكون علاقة بين أي رجل وامرأة في هذا العالم، والتي يقدمها كياروستامي في بناء له أن يوحي بأنهما كانا متزوجين حقيقة أو أنهما يمثلان نسخة طبق الأصل عن زواج ما عاد من الوارد إصلاحه. فيلم كياروستامي ينضم إلى الأفلام الأهم في المسابقة ولعل ذلك متوقع، ولنا أن نعود إليه تفصيلا خارج تزاحم الأفلام وتتابعها أثناء المهرجان، حاله حال فيلمي أناريتو وغودار.

الأكثر مشاركة