ماتت وحيدة في منفاها بألمانيا

فيليسيا لانغر.. إسرائيلية دافعت عن الفلسطينيين ومثلتهم أمام المحاكم

صورة

لم ألتقها أبداً في حياتي، لكنني اتصلت بها مرتين أو ثلاث مرات من مكانها بالمنفى، وأتذكر جيداً ما كانت تعنيه لي ولمعظم جيلي عندما تعرضنا في شبابنا لعملية «غسيل دماغ»: كنا ننظر إليها كرمز لكراهية إسرائيل، وعدو رسمي، مروع وخائن ومنبوذ. هكذا تعلمنا أن ننظر إليها وبعض المنشقين الأوائل الآخرين، ولم نكن نتساءل أو حتى نهتم عن السبب في ذلك.

قارعت هذه المرأة الشجاعة والجريئة التعذيب الذي يقوم به جهاز الأمن العام (الشاباك).

وحاربت ضد طرد الناشطين السياسيين، وضد الاعتقالات لأسباب زائفة، وضد هدم المنازل.

وقبل كل شيء، حاربت من أجل تطبيق القانون الدولي الذي قرّرت إسرائيل أن تستثني نفسها منه على أسس لا يستطيع أحد تصديقها.

 

الآن وبعد أن توفيت في الـ87، في المنفى، أصبحت صورتها تتوهج في عيني على مر الزمان والمسافة. كانت فيليسيا لانغر، التي توفيت في ألمانيا يوم الخميس الماضي، بطلة ورائدة وامرأة لها ضمير إنساني، لم تحصل هي وعدد قليل ممن هم على شاكلتها أبداً على الاعتراف بهم هنا في إسرائيل، كأناس يستحقون التكريم. وليس واضحاً أنهم (الإسرائيليون) سيفعلون ذلك.

في هذا المكان (إسرائيل) يتم الترحيب «بالمنتمين» لمنظمات إرهابية يهودية خطيرة - أحدهم أصبح محرراً في صحيفة، وآخر أصبح خبيراً في القانون الديني - ويتم قبول العنصريين كمشاركين شرعيين في ساحة المناقشة العامة، ولا يستقبلهم أي مكان آخر، فليس هنا مجال لفرسان العدالة الشجعان الذين دفعوا ثمناً باهظاً بسبب الانضمام لهذا المعسكر، الذي لم يتبعه أحد.

«العدالة الإسرائيلية»

كانت لانغر أحد الناجين من المحرقة من بولندا، درست القانون في الجامعة العبرية في القدس، وبعد الاحتلال، كانت أول من افتتح مكتباً قانونياً مخصصاً للدفاع عن الضحايا الفلسطينيين، وترسمت في هذا الخصوص خطى شخصيات يهودية شهيرة حاربت الظلم في جنوب إفريقيا، وأميركا اللاتينية، وأوروبا والولايات المتحدة، وجعلها إحساسها بمسؤوليتها تجاه العدالة هنا في صراع دائم مع وضعها كمواطنة، لكنها نجحت في بعض الأحيان: في عام 1979، بعد تقديمها التماساً، ألغت محكمة العدل العليا أمراً بطرد عمدة نابلس، بسام الشكعة. وبعد عام من ذلك، زرعت مجموعة يهودية تعمل تحت الأرض قنبلة في سيارته، وأدى الانفجار إلى فقدانه ساقيه، وهنا ظهرت «العدالة الإسرائيلية».

لن أكون ورقة توت

كانت لانغر امرأة رائدة من بين محامي الضمير الإسرائيليين، الذين بذلوا أنفسهم للدفاع عن حقوق الفلسطينيين، الذين تعرضوا للاحتلال، لكنها كانت أيضاً أول من تخلى عن هذه المسؤولية، حيث أغلقت مكتبها القانوني في عام 1990 وذهبت لتعيش في المنفى. وفي مقابلة أجراها معها عام 2012 المخرج الوثائقي، عيران توربنر، أوضحت قائلة: «غادرت إسرائيل لأنني لم أعد أستطيع مساعدة الضحايا الفلسطينيين على أساس النظام القانوني الحالي، واستهتاره بالقانون الدولي، الذي كان من المفترض أن يحمي الأشخاص الذين كنت أدافع عنهم. لم أستطع التصرف، كنت أواجه وضعاً ميؤوساً منه». وتحدثت لصحيفة واشنطن بوست بأنها «لا يمكن أن تكون ورقة توت لهذا النظام». وقالت إنها لم تغير أبداً جبهتها، فقد كان مكانها دائماً على الجبهة، لكن الجبهة الآن في أدنى مستوياتها، إذ رسخ الاحتلال قدميه كما لم يفعل من قبل، وأضفى الشرعية على جميع جرائمه تقريباً. ما جعل لانغر تصل إلى استنتاج مفاده أن الأمور ميؤوس منها. وكانت، على ما يبدو، على حق، كان الكفاح في المحاكم العسكرية مصيره الفشل، ليس له أي احتمال للنجاح، لأن المحاكم العسكرية تخضع فقط لقوانين الاحتلال وليست لقوانين العدالة، ولا تتضمن الإجراءات أكثر من مجرد طقوس قانونية مجحفة وكاذبة.

حتى النظام القانوني المدني، الذي تترأسه محكمة العدل العليا، لم يقف أبداً إلى جانب الضحايا وضد جرائم الاحتلال، وبين الفينة والأخرى يتم إصدار أوامر التقييد، ويتم تعليق الإجراءات، وفي سجلات الاحتلال، تعتبر المحكمة العليا في إسرائيل المشرعة الأساسية للاحتلال، والمتعاون الأساسي مع الجيش، وفي مثل هذه الحالة، لم تستطع لانغر فعل أي شيء وهذا استنتاج مثير للاكتئاب.

مقارعة التعذيب

لقد قارعت هذه المرأة الشجاعة والجريئة التعذيب الذي يقوم به جهاز الأمن العام (الشاباك) في وقت لم نكن نؤمن فيه، حتى بوجود مثل هذا التعذيب، لكنه كان في ذروته وقسوته. حاربت ضد طرد الناشطين السياسيين، وضد الاعتقالات لأسباب زائفة، وضد هدم المنازل، وقبل كل شيء، حاربت من أجل تطبيق القانون الدولي الذي قررت إسرائيل أن تستثني نفسها منه على أسس لا يستطيع أحد تصديقها. هذا ما حاربته ولهذا السبب اعتبرتها إسرائيل عدواً رسمياً.

وهي في سن الشيخوخة، أخبرها حفيدها أن الفلسطينيين سيفوزون في النهاية، وسيحصلون على دولة خاصة بهم، وقال لها «لن تري ذلك، لكنني سأشهده». ولكن في النهاية، سيصاب الحفيد بخيبة أمل، تماماً كما حدث لجدته المتميزة.

جدعون ليفي إسرائيلي مناصر لقضايا الشعب الفلسطيني


محاربة وحيدة

فيليسيا لانغر - توفيت الأسبوع الماضي في ألمانيا - هي يهودية، ناجية من المحرقة، شيوعية، وأحد أوائل المحامين الإسرائيليين، الذين دافعوا عن الفلسطينيين في الأراضي المحتلة أمام المحكمة العليا الإسرائيلية. في تلك الأيام، كان هناك عدد قليل جداً من المحامين الإسرائيليين المستعدين لتمثيل الفلسطينيين أمام المحاكم، وانبرت لانغر للدفاع عن الفلسطينيين لكنها في النهاية أصبحت شخصية مكروهة بين عامة الإسرائيليين. قالوا عنها هي يهودية انضمت إلى «العدو العربي». تحدثت بأن هناك فترات كان سائقو سيارات الأجرة في القدس يرفضون التوقف لحملها، وكانت التهديدات الموجهة ضدها شديدة لدرجة أنها اضطرت إلى استئجار حارس شخصي، واضطرت إلى إخفاء لافتة مكتبها في القدس، وكان جيرانها كثيراً ما يطلبون منها تنظيف عبارات كتبت على جدار مكتبها، مثل «سوف تموتين قريباً» لأنها تشوّه المنظر الجمالي للمنطقة، ولم يكترثوا في حقيقة الأمر بالمخاطر التي تهدد جارتهم.

خاضت لانغر، وحيدة تقريباً، معارك ضد رؤساء النظام القضائي في ذلك الوقت، وضد أشخاص لهم سلطة سياسية وعامة هائلة، مثل القاضي مئير شمغار، ومحامي الدولة (أصبح في ما بعد قاضياً في المحكمة العليا) ميخائيل شيشين. كانت الجلسات في قضايا لانغر مثيرة للجدل، لم تتردد أبداً في اتهام المؤسسة الإسرائيلية بتلفيق جرائم ضد موكليها - وكان بعض موكليها أعضاء في القيادة الفلسطينية في الأراضي المحتلة، مثل رئيس بلدية نابلس بسام الشكعة، ومرشح عمودية بلدة الخليل، حازمي النتشة - كضحايا لـ«النظام الشرير».

وعلى مر السنين، ترسم محامون آخرون الطريق الذي سلكته لانغر، منهم ليا تسيميل، إلياس خوري، رجا شحادة، وأفيغدور فيلدمان، وانضم إليهم الكثير منذ ذلك الحين. لكن في التسعينات، أدركت أن نهجها أصبح كورقة توت تخفي عورة الدولة الصهيونية، وصار النظام القضائي يستغل الإجراءات القانونية لأغراض العلاقات العامة والدعاية الموالية لإسرائيل، فأغلقت مكتبها وانتقلت إلى ألمانيا، حيث واصلت محاربة الاحتلال والنضال من أجل السلام والتعايش من هناك.

ترجمة: (ع-خ) عن «ماغازين»

تويتر