5 دقائق

مدرسة الحياة

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

الحياة مدرسة عامرة عريقة، يتعلم العاقل منها حكماً بالغة، وتجارب ناجحة، وقيما قيِّمة؛ إن هو عرف قدرها، وعلم أنها الفرصة التي لا تعوض.

نعم إنها مدرسة مكتملة الأركان، مشيدة البنيان، بفصولها المختلفة من الطفولة إلى ريعان الشباب ثم نضجه، وإلى الكهولة ثم الشيخوخة، وفي كل فصل لها مناهجها المناسبة التي تضفي على المستفيد معارف لا توجد في غيرها، ولها أساليب مختلفة التغذية المعرفية.

ولا ريب أن الذين يستفيدون من هذه المدرسة العامرة هم قليلون جداً، ومن أولئك صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، حفظه الله، الذي عرف قيمة الحياة فنهل من معينها وعَلّ، حتى اكتسب معارف عظيمة، فتراه يغرد ببعض فقرات ما تعلمه منها كهذه التغريدة العظيمة ضمن سلسلة «علمتني الحياة»، التي يقول فيها:

«علمتني الحياة بأننا في زمن نحتاج فيه للكثير من العمل والقليل من الجدل.. نحتاج حولنا مزيداً من الحكماء لا السفهاء.. علمتني الحياة بأننا في زمن حفاظنا على مكتسباتنا هو أهم مكاسبنا.. وتوحيد القلوب أحد أهم خطوط دفاعاتنا.. والحفاظ على عقلانيتنا أفضل خطة في زمن كثر فيه الغوغاء».

لا جرم «أننا في زمان نحتاج فيه مزيداً من الحكماء لا السفهاء»، لأن الحكماء هم الذين يبنون، بخلاف السفهاء فإنهم يهدمون ما يبنى لرعونتهم وطيشهم، الحكماء هم الذين يخططون للمستقبل بفكر نيِّر، وفهم ثاقب، ورؤى بعيدة الشأو، هم الذين يجتنبون المحاذير، وينأون بأنفسهم عن الترهات وسفاسف الأمور حتى لا تشغلهم عن المقاصد العظيمة، وهم الأصل لكل شرف مروم، وحسبهم فخراً أنهم حكماء، «وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا».

وما أجمل المادة التعليمية الأخرى: «إننا في زمن نحتاج فيه للكثير من العمل والقليل من الجدل»!

نعم نحتاج للكثير من العمل حتى نصل إلى المحل المنشود، فالعمل هو الذي أُمرنا به، «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ»، لأن العمل هو الحياة، هو التقدم، هو الفخر، هو الأمن، هو الازدهار.. أما سفسطة الكلام فهو جدل عقيم، لا يسمن ولا يغني من جوع، فماذا كسبت الأمم من نظريات علمية لا واقع لها، ومن معارف لا تطبيق لها، ومن تخطيطات لا تقبل التنفيذ؟ إن ذلك هو الذي أخر الأمة الإسلامية والعربية بما سمي بعصر الانحطاط بعد عصر النهوض، وذلك حينما حلت النظريات الكلامية بسبب الفكر الاعتزالي الذي انشغلت به الدولة العباسية في صدرها الأول، ثم جر ذيوله إلى الأفكار الأخرى المتشعبة التي حطمت الحضارة الإسلامية، وقد كانت جذوة متوقدة نهضت بالأمم المختلفة، نعم ليس هذا الزمان المتسارع زمن فلسفات تعيق وتشغل أرباب الحجى عن العمل النافع، والتخطيط السليم، لمستقبل زاهر يسابق الأمم الراقية في جميع مجالاتها.

إننا اليوم في عالم الفضاء والمريخ والتكنولوجيا الرقمية التي سخرت للبشر للاستفادة منها، فأصبح العالم متسارعاً كسرعة البرق، فلنُركن الجدل المثير المثبط جانباً، ولنُقبل على ما ينفعنا في ديننا ودنيانا.

وهكذا كانت الحكمة الأخيرة «إننا في زمنٍ حفاظُنا على مكتسباتنا هو أهم مكاسبنا.. وتوحيد القلوب أحد أهم خطوط دفاعاتنا». إن الحفاظ على المكتسبات العظيمة هو الذخر الكبير للوطن حاضراً ومستقبلاً، وهو الهدف الأسمى للسياسة الرشيدة؛ لأن هذه المكتسبات لم توجد عفوياً حتى يستهان بها، بل لقد بذل الكثير من المال والجهد والفكر حتى تحققت، فليس من السهل التفريط بها مهما كان الأمر، ومهما بلغ الجهد والثمن، فإن الذين فرطوا في هذه المكاسب هاهم اليوم في ضلالهم يعمهون، وفي غيهم يسرحون، فأضاعوا حاضر أممهم ومستقبلها، ومثل ذلك لا يكون من سياسي رشيد، ومن أهم عوامل الحفاظ على هذه المكتسبات ما عبرت عنه هذه الحكمة «توحيد القلوب أحد أهم خطوط دفاعاتنا.. والحفاظ على عقلانيتنا أفضل خطة في زمن كثر فيه الغوغاء». فإن هدر المكتسبات لا يكون إلا من تمزق الفكر وتشتت الصف، وكما قال معن بن زائدة:

تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا * وإذا افترقن تكسرت آحادا

أدم اللهم علينا نعمة هذه القيادة الحكيمة، والسياسة الرشيدة، وانفعنا بمخرجات هذه المدرسة العظيمة.

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .


«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

تويتر