من المجالس

عادل محمد الراشد

  

علاقة الانسان بالمكان تبدأ مع أول عمره. تلك البداية التي يقوم فيها بتحريك عينيه في كل الاتجاهات، لتستقر في ذاكرتها الصور ، وتكبر تفاصيلها معه فتزداد في ناظريه وضوحًا وخصوصية، ويبدأ فيها بالحركة وتلمّس محيطه حتى يقف ماشيا ليقيم بنيان الارتباط بالمكان.


ومع تعاقب مراحل العمر تكبر الصور وتكبر مساحتها في الذاكرة، وتصبح جزءا من تكوين هذا الانسان، وبها يتبلور الانتماء القائم على الارتباط الضارب في اعماق النفس.


ولذلك تبدو هذه العلاقة واضحة وصافية في اعمال الأدباء والشعراء والمبدعين والمفكرين الذين نموا في محيط مكاني فرض مشاهده في الواقع، واستمرت معه هذه المشاهد في كتاب المدرسة وفيلم السينما وبرنامج التلفزيون، في انسجام وتناغم لا يسمح بشطر النفس الى جزأين: أحدهما من بيئته، والآخر من الكتب والأفلام والبرامج التي تأخذه بصورها وتفاصيلها الى بيئة بعيدة للغاية عن بيئته، فتلتبس عليه الصور، وتختلط المشاهد، فلا يبقى من علاقته بمكانه الا الاحساس بالانتماء دون القدرة على ترجمة هذا الاحساس الى تصرفات وأعمال.


الطفل عندنا مرتبط بمحيطه وبيئته، وعندما يكبر قليلاً يرى نفسه تبتعد الى أمكنة تختلف، وتضاريس اخرى، وأشكال غير التي تعوّد عليها. فالكتاب المدرسي لا يشبع حاجة هذا الطفل لترسيخ تفاصيل المكان في نفسه، والرحلات المدرسية تراوح بين «مول» وحديقة ومعرض، دون ان تحاول تجاوز ذلك الى الجغرافيا بخرائطها الفسيحة، والتاريخ بآثاره وتراثه ورموزه الكثيرة. المدرسة والكتاب المدرسي والنشاط المدرسي تتحمل العبء الأكبر، ولكن ليس العبء كله.


وعندما نقول إن مادة الاجتماعيات في المرحلة التعليمية الدنيا والجغرافيا والتاريخ في المراحل الاعلى مواد مهمة، فإن أهميتها تكمن في تكريس الانتماء ووضوح الصورة، وليس في رصد الدرجات فقط. وتقليص حصص هذه المواد لا يخدم العملية التعليمية، وإن ذهب جزء من هذه الحصص لمصلحة الرياضيات و«الانجليزي». وترك المدارس الخاصة تعلم الطلاب ما تشاء في هاتين المادتين سبب مهم في تكريس الفصل بين طلابنا وبين المكان الذي يطالبهم بالمزيد من الانتماء والولاء.   
adel.m.alrashed@gmail.com

تويتر