Emarat Alyoum

خطاب ترامب والقلق المجتمعي حول «الحلم الأميركي»

التاريخ:: 19 سبتمبر 2018
المصدر: مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة - أبوظبي
خطاب ترامب والقلق المجتمعي حول «الحلم الأميركي»

شكّل وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة فرصةً لإعادة الحديث عن أزمات المجتمع الأميركي، والشكوك حيال مستقبل النموذج الأميركي، إذ يعتقد عديدون أن إدارة ترامب تغذي عبر سياساتها خطابات الكراهية والاستبعاد والتهميش المجتمعي، وتضفي عليها شرعية من نوعٍ ما. وفي مثل هذا السياق، يبدو الخوف هو العنصر الحاكم لمعادلة العلاقات المجتمعية، فثمة خوف من الآخر المغاير الذي تترسخ مدركات سلبية بشأنه، ويتم تحميله مسؤولية كل الإخفاقات والأزمات.

وفي هذا الإطار، تتناول مارثا نوسباوم في كتابها «ملكية الخوف.. فيلسوف ينظر لأزمتنا السياسية»، إشكالية الخوف في المجتمع الأميركي من خلال تحليل تمتزج فيه الرؤية الفلسفية مع التتبع التاريخي لمشكلات الداخل الأميركي، والتي تُعد - من وجهة نظر نوسباوم - أكبر من مجرد النظر إلى ترامب بوصفه السبب الرئيس لها، ومن ثم يبدو الكتاب أقرب إلى النقد المجتمعي منه إلى تحليل سياسات السلطة الحاكمة.

التاريخ والحاضر

تنطلق مارثا نوسباوم من فرضية أن هناك الكثير من الخوف في الولايات المتحدة في المرحلة الراهنة، ويشعر كثير من الأميركيين بأنهم عاجزون عن السيطرة على حياتهم الخاصة، ويخشون على مستقبلهم في ظل تراجع فكرة «الحلم الأميركي» لديهم، وترتبط هذه الحالة ــ وفقاً للكتاب ــ ببعض المشكلات الجوهرية، مثل تراجع الدخل في صفوف الطبقة المتوسطة الدنيا، وكذا تراجع المستوى الصحي ومعدلات الأعمار داخل هذه الطبقة، علاوة على تصاعد تكاليف التعليم العالي، وآثار العولمة والأتمتة، التي أوجدت مشكلات عميقة ومستعصية للطبقة العاملة في الولايات المتحدة.

هذه الإشكاليات تمتزج في الوعي الجماعي لدى الكثيرين مع حدث انتخاب الرئيس ترامب، الذي يُعد من وجهة نظرهم تهديداً ملحّاً للنموذج الأميركي ومستقبل الديمقراطية في الولايات المتحدة، حيث إن المزايا كافة التي حصل عليها المجتمع الأميركي، ونشأت عليها الأجيال الحالية، على وشك أن تنقضي. وفي خضم هذه الهواجس حول المستقبل، تمت صياغة خطابات للكراهية المتبادلة، وتصوير الناخبين الأميركيين الذين صوتوا لترامب بصفات سلبية باعتبارهم المسؤولين عن وصوله إلى الحكم.

تحاول نوسباوم التعامل مع هذه الرؤية المتشائمة بدرجة أكبر من الهدوء والمنطقية، وتستحضر في هذا الإطار التاريخ الأميركي الذي لم يكن مثالياً بشكل أو بآخر، فقد عانت الولايات المتحدة، على سبيل المثال، العنصرية الشديدة ضد السود، وتعرض النساء لأشكال مختلفة من التمييز والمضايقات، التي لم تجد لها رادعاً قانونياً.

ويشير الكتاب إلى أن هذا التاريخ يخبرنا عن شيئين مهمين: أحدهما أن الولايات المتحدة التي يتحدث عنها كثيرون اليوم، ويتخوفون من اندثار نموذجها المثالي، لم تكن موجودة تاريخياً بصورة مثالية، لكنها كانت مشروعاً قيد التنفيذ، ومجموعة من التطلعات الديناميكية التي تطورت من خلال العمل الشاق والتضامن على مدى زمني طويل.

ومن ناحية ثانية، ربما تبدو اللحظة الراهنة كأنها تراجع عن مسيرة الولايات المتحدة، بحسب نوسباوم، نحو المساواة الإنسانية، لكنها ليست نهاية العالم، حيث إن المبالغة في تصوير المخاطر التي تُحيط بمستقبل النموذج الأميركي تنتج المزيد من الأزمات المجتمعية على غرار تنامي العداءات بين الجماعات المختلفة، والتكريس لفكرة «كبش الفداء»، وتحويل الآخرين إلى قوى تفتقر إلى الخير، وتتحمل مسؤولية الشرور كافة التي يتعرض لها المجتمع.

معضلة الخوف

ثمة علاقة بين العاطفة الشخصية التي تتحول في مرحلة ما إلى عاطفة جماعية، والعلاقات السياسية داخل المجتمعات، لهذا كانت عاطفة الخوف تستحوذ على اهتمام العديد من الأدبيات التي سعت إلى استكشاف منظومة العلاقات القائمة على الخوف، ولاسيما في ما يتعلق بآليات تعامل السلطة مع الجماهير، أو طريقة التفاعل بين الجماعات المختلفة المتنافسة والمتصارعة، ولو بصورة متخيلة، على موارد تتسم بدرجة ما بالمحدودية.

ويتصل الخوف بشعور ذاتي بالتهديد، أو على حد تعبير أرسطو، فإنه ألم نتيجة لشيء سيئ وشيك مع شعور بالعجز عن إبعاده. صحيح أن الخوف ينطوي على جوانب إيجابية متصلة بقدرته على إكساب الأفراد المزيد من الخبرات التي تمكنهم من تجنب مكامن الإيذاء والحفاظ على الذات آمنة، بيد أنه في بعض السياقات يصبح مصدراً لتهديد استقرار المجتمع، حينما يكون أكثر نرجسية ويدفع الأفراد إلى الخوف المفرط من الآخرين، وهو ما قد يتطور إلى كراهيتهم والتحريض على العنف تجاههم.

وتعتقد نوسباوم أن تشكل الخوف يتأثر بالسياق المجتمعي القائم، والخطابات السياسية السائدة، التي تخلق تهديدات ملحة للرفاهية المجتمعية، ولعل هذا ما يتجلى في ظاهرة الإسلاموفوبيا داخل الولايات المتحدة، حيث إن الأمر تجاوز التعامل مع التهديدات الإرهابية التي يشكلها بعض المنتسبين للإسلام، ليصبح ثمة نمط من الخوف من المسلمين بشكل عام، ويتغذى هذا الخوف ــ وفقاً للكتاب ــ على جهل الكثير من الأميركيين بالدين الإسلامي والفروق المذهبية داخل الدين، أو حتى التفرقة بين العرب والمسلمين.

وتأسيساً على هذا الجهل ومع وقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، بات من السهل إنتاج صيغ تعميمية في التعامل مع المسلمين، ليصبح معظم المسلمين إرهابيين أو إرهابيين محتملين.

متلازمات الخوف

ثمة متلازمات تستدعيها حالة الخوف وتنعكس على استقرار المجتمع (هي: الغضب، والاشمئزاز، والحسد)، فالولايات المتحدة تبدو بلداً غاضباً، حيث يهيمن «الغضب» على سلوكيات الكثيرين وفي اتجاهات مختلفة؛ فالرجال غاضبون من النساء ويلقون باللوم عليهن، وهناك غضب تجاه المسلمين، ويلوم المهاجرون النظام السياسي لعدم الاستقرار في حياتهم، وتلوم الجماعات المهيمنة المهاجرين على عدم الاستقرار المجتمعي ككل، والتأثير على الفرص الاقتصادية.

وما يجعل لهذا الغضب انعكاسات كارثية على المجتمع، أنه متصل بالشعور بالإهانة والتقليل من الشأن، وبالتالي الرغبة في الانتقام، ناهيك بحالة الاشمئزاز التي يبديها البعض تجاه الفئات المغايرة، خصوصاً مع التاريخ الذي تمتلكه الولايات المتحدة من الاستبعاد والتهميش لفئات مجتمعية معينة. وتفترض نوسباوم هنا أن الاشمئزاز، بما ينطوي عليه من فكرة أن الكائن ملوث، هو أحد المحركات الرئيسة للاستبعاد والتهميش المجتمعي.

هذا الشعور بالاشمئزاز لايزال قائماً في المجتمع الأميركي؛ فبعض الناس يشعرون بالاشمئزاز من أجساد الأميركيين ذوي الأصول الإفريقية، ويوافقون على الحجج التي تقول بميلهم للإجرام. ويتجلى أيضاً الشعور بالاشمئزاز في نظرة البعض إلى المرأة في المجتمع، وربما كانت خطابات وتصريحات الرئيس ترامب وانتقاده لبعض السيدات نموذجاً على ذلك الاشمئزاز.

ويضطلع «الحسد» أيضاً بدور في مشكلات المجتمع الأميركي؛ إذ اعتقد جون رولز أن هناك محفزات رئيسة لانتشار الحسد المدمر اجتماعياً، وتتمثل في افتقار الأشخاص للثقة في قيمتهم الذاتية، وقدرتهم على فعل شيء ذي قيمة، وذلك في ظل تناقضات اجتماعية واعتقاد من الأفراد بأنه لا يوجد بديل عن الحسد العدائي، وإلحاق الأذى بالآخرين، كآلية وهمية لدفع الشعور بالألم الداخلي لعدم امتلاك ما يمتلكه الآخرون.

وتشير نوسباوم إلى أن الحسد ينتشر في السياقات المجتمعية الأميركية بتجليات مختلفة، حيث إن التعرض للركود الاقتصادي والعجز يدفع الكثير من المنتسبين للطبقتين المتوسطة والدنيا إلى التشويه المبني على الحسد لنخب واشنطن الناجحة، كما يحسد البعض السيدات لمزاحمتهن على الوظائف.

وعلى اليسار نجد كراهية للمصرفيين والشركات الكبرى والنخب الداعمة للرأسمالية، والحسد هنا ليس فقط نقداً للآخرين، لكنه ينطوي على عداء ورغبات مدمرة مقرونة بإرادة لإفساد متعة من يمتلكون، وبالتالي يفضي على المدى البعيد إلى أزمات للنظام السياسي لأنه يعرقل إقامة مشروع قومي جماعي، في ظل تعامل الأفراد مع الواقع المجتمعي من منظور المعادلات الصفرية، التي لا تتقبل الرفاهية والسعادة للآخرين.

استعادة الأمل

على الرغم من الأزمات التي يعانيها المجتمع الأميركي، فإن نوسباوم تؤكد ضرورة التمسك بالأمل كآلية للخروج من حالة الخوف، لاسيما أن ثمة مؤشرات يمكن أن تدعم هذا الأمل، حيث إن مؤسسات الحكم الرئيسة لاتزال تتمتع بكفاءة، ربما لا تكون مؤسسة القضاء مثالية، لكنها ليست أيضاً أداة للسلطة تخضع لإرادتها، ونظام فصل السلطات يعمل بشكل جيد، كما أن هناك قوى سياسية ومجتمعية تقاوم خطابات العنصرية والاستبعاد والتهميش.

ويبدو المشروع القائم على الأمل ملحاً في اللحظة الراهنة، من وجهة نظر المؤلفة، لأن هيمنة الخوف ليست في مصلحة الديمقراطية، حيث إن الخوف يدفع الناس إلى التعامل مع الواقع بشكل غير منطقي، وبالتبعية إمكانية دعم مشروع السيطرة الأوتوقراطية، ولعل هذا ما أدركه مارتن لوثر كينغ أثناء سعيه للحصول على حقوق السود، فقد رأى أن اتباع مسار الخوف في التعاطي مع مستقبل العلاقات العرقية سيؤدي إلى بزوغ وهيمنة أولئك الذين يسعون إلى إدارة العلاقات مع الآخرين عن طريق العنف، ولهذا كان تركيز كينج على الأمل وإمكانية التغيير من خلال العمل السلمي والتعاون.


تكريس مشروع الأمل

يمكن أن تقوم حركات التضامن، سواء الدينية أو الدنيوية، بدور جوهري في التكريس لمشروع الأمل في المجتمع، وخلق رؤية مشتركة وسردية لهدف مشترك بين أفراد المجتمع، لتجاوز معضلة افتقار الكثير من الأميركيين للإحساس بالمصلحة العامة، وعليه تقترح «نوسباوم» تفعيل برنامج إلزامي للخدمة المدنية للشباب كبرنامج ممتد لفترة زمنية مناسبة، يتضمن إرسال الشباب إلى مناطق الولايات المتحدة المختلفة للقيام بأعمال مجتمعية، وهو ما يمنحهم فرصة للتفكير خارج نطاق مجموعتهم الاقتصادية أو العنصرية، ويعطيهم رؤية أكثر تنوعاً للمجتمع.

الولايات المتحدة التي يتحدث عنها الكثيرون اليوم، ويتخوفون من اندثار نموذجها المثالي، لم تكن موجودة تاريخياً بصورة مثالية، لكنها كانت مشروعاً قيد التنفيذ، ومجموعة من التطلعات الديناميكية التي تطورت من خلال العمل الشاق والتضامن على مدى زمني طويل.