يا.. يا الميدان كنت فين من زمان!

نتذكر جيداً كيف استحضر جمهور ميدان التحرير أغاني الشيخ إمام.. لم تكن تلك مصادفة بالطبع، فنحن في سياق واضح يتطلب هذا الفن الملائم للحظة التاريخية. ولكن، هل يعني هذا أن الأغنية السياسية، أو الملتزمة، أو الجادة ـ إن شئت ـ هي أغنية مناسباتية؟

قبل الميدان، ومنذ ثلاثة عقود تقريباً، ظهرت الأغنية التي تسمى «شبابية»، وهي بضع كلمات سطحية في أغلب الأحيان، تشترك جميعها في إيقاعات متشابهة أو متطابقة أحياناً، ولكن انتشارها كان سريعاً وقوياً، لأنها اعتمدت المرأة سلعة تجارية، فأثارت الغرائز بشتى الوسائل، وتسابق الفنانون على الجميلات ليصوروا أغنياتهم بصحبتهن وهن شبه عاريات، من دون أن ننسى الجرأة المفرطة أحياناً في الحركات والإيحاءات والإيماءات.

كان المسرح السياسي والثقافي والاجتماعي أُعدّ جيداً لهذه الأغنية، لأن التغيرات الثقافية التي حدثت في العالم العربي كانت قوية وكبيرة ومؤثرة. حيث لم يعد ثمة عدو أو قضايا قومية كبرى ـ ليست بالضرورة متعينة في الحروب، وإنما كذلك في التنمية والانتماء والحب ـ وحيث جرى تعميم سياسات الفصل بين السلطات والناس، وباعت السلطات حقوقها في المؤسسات العامة، لتنشأ طبقة من الأثرياء تمكنت من الإمساك بوسائل الإعلام على اختلاف أنواعها، بما فيها الرياضية أيضاً.

ولذلك لم يكن غريباً أن ترفع الأغنية الملتزمة رأسها من جديد، وأن يكون ميدان التحرير هو الحاضنة الثقافية لهذه العودة. ولعل المستمع إلى أغنية «يا.. يا الميدان» لتحية الأيوبي وعدد من الشباب، يدرك مدى أهمية الميدان قيمةً ومفاهيم وليس مكاناً. فميدان التحرير موجود وقائم ولم ينقله السادات أو مبارك منذ بداية السبعينات. ولكن التساؤل في الأغنية: كنت فين من زمان؟ ربما يعبر بوضوح عن التوق الجمعي للقيم الإنسانية والمفاهيم الثقافية والاجتماعية التي كانت مغيبة طوال 40 سنة.

لقد أدرك الناس في لحظة حاسمة، أنهم يشتركون في حاضر ومستقبل ومصير، وكان الميدان بمثابة روح مستيقظة، تعرف ما تريد وما لا تريد.. تدرك أنها أمسكت باللحظة التاريخية التي انتظرتها عقوداً. ولعلنا ندرك معنى الأغنية أكثر، عندما نعلم أنه طوال الاعتصام المفتوح في ميدان التحرير، لم يفقد أحد ولاعة سجائره. بل كان هنالك اهتمام لافت بحاجات الناس اليومية ومقتنياتهم وضرورة الحفاظ عليها. أي ان الصورة النمطية عن مصر وشعبها انقلبت بين ليلة وأخرى، لم يقلبها الميدان كمكان وحيز وفضاء، ولكنه قلبها كمفتاح للعودة إلى القيم الإنسانية والكرامة والتسامح والحب والوفاء والانتماء، ونبذ النزعة الفردية التي عمل على تسويقها النظام منذ السبعينات.

يا.. يا الميدان، ليست قفزة في الهواء. هنالك الآن دماء شابة جديدة في مصر، تعرف معنى الهوية وقيمة الثقافة ودور الفن في الحفاظ على توهج الجماعة. لقد اختفت الهويات الثانوية المزعومة، التي يروج لها مفكرو الغرب واليمين العربي، بوصفها بديلاً عن الهويات القومية والطبقية، ذلك أن الجماعة لمست بيدها حقيقة الهوية القومية والطبقية. وأدركت أنه لا خلاص فردياً إلا بالميدان.. بثقافته وروحه وهويته المعبرة عن الهوية الكبرى، فكان من الضروري أن يغني الشباب: يا.. يا الميدان/ كنت فين من زمان... تعبيراً عن توقهم إلى التمسك بالقيم المصرية التي حاول البعض طمسها وفشل.

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

الأكثر مشاركة