5 دقائق

فتنة العقود الصورية

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

لا يكاد الفقهاء ينتهون من فتنة عقدٍ صوري حتى يَطل عقد آخر برأسه ليفتن الناس فيه، فبينما كاد الإجماع يستتب على حرمة التورق المنظم؛ لكونه عقداً صورياً، وحقيقته أنه قرض بفائدة كما كيفته قرارات المجامع الفقهية، فإذا بعقد آخر هو أكثر صورية وأبعد عن الحقيقة يظهر للناس فجأة، من غير مقدمات ولا ممهدات؛ إنه عقد السلم المُنظم الذي ادعي فيه أنه أبعد عن الشبهة وأقرب إلى الحل، بل الحل كله!

وإن مما لا ينقضي منه العجب أن يكون كذلك هو قد أُعِد إعداداً تمويلياً بحتاً، لا يمت إلى حقيقة أصله بصلة، ولا إلى مقصد الشارع منه بخبر.

إن عقد السلم من العقود الشرعية، ولكنه جاء على خلاف الأصل في البيوع القائمة على بيع الحاضر الناضر، وبثمن المثل الذي يكون به التراضي ويحقق مصلحتي البائع والمشتري، فشُرع لسد حاجة الزارع أو الصانع، حينما يكون عاجزاً عن زراعة بستانه لقلة ذات يده، فيضطر إلى أن يبيع محصول زراعته ليقبض الثمن ويشتري البذر ويبذل الأجر، وكذا الصانع الذي يحتاج إلى سيولة مادية يشتري بها أجهزة وخاماتٍ حتى يشغل المصنع، فشرع لهما أن يسوقا منتجاتهما قبل حصولها، لشدة حاجتهما ولذلك يسمى: بيع المحاويج، وبيع المفاليس، وقد كان موجوداً قبل الإسلام من غير ضوابط، فجاء الإسلام وضبطه بما ينفي الغرر، ويرفع عنه الجهالة والتنازع، يقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يُسلِفون في الثمار السنة والسنتين فقال: «من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجلٍ معلوم». واتفق العلماء على أن هذا البيع جارٍ على خلاف القياس، واتفقوا على أن ما خرج عن القياس لا يقاس عليه، فكيف يليق بعد ذلك أن نجعل من هذا العقد النادر الوجود أصلاً لتوفير السيولة لكل مستهلك؟ ويكون منتجاً جديداً لتوفير الأرباح مع من لم يُشرع له، بصورة منظمة هدفها الأساس توفير الربحية للبنك من خلال ما يدفعه للمتعاملين، أما المصنع فلا حاجة له بذلك، ولو أراد أن يبيع ليحصل على هذه السيولة لوصل إلى البنك بنفسه وباعه منتجاته، لو كان البنك تاجراً، أما أصحاب البساتين والمزارع فلا وجود لهم في قائمة البنك المتاجر بهذا المنتج، فكيف يكون سَلَماً شرعياً، أو عقداً حقيقياً، هو عقد صوري لا مِرية فيه؟ وقد ذهب جمهور العلماء إلى بطلان العقود الصورية وحرمتها. وإذا حرم عقد التورق المنظم، مع أن الأصل فيه الحِل؛ لكون التورق ضرباً من ضروب التجارة، فالتاجر يشتري بالدين ويبيع بالنقد ويسدد ما عليه، ومازال عمل التجار كذلك قديماً وحديثاً، فلما دخله التنظيم الذي غيره من عقد حقيقي إلى عقد صوري حرم، فكيف بعقد السلم الذي هو على خلاف الأصل، فهل يكون حلالاً وقد أصبح عقداً نمطياً للتمويل الشخصي المرتب الأرباح؟!

إن هذا من الحيل الموصلة إلى العقود الفاسدة، والحيلة إذا أوصلت إلى الحرام فلا خلاف بين أهل العلم في حرمتها، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهودأ فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل»، فالله تعالى لا تخفى عليه خافية، فهو يعلم العقد الذي شرعه لعباده، مما حرمه عليهم، ويحاسب عباده على الحقائق لا على الصور التخيِيلية، فالعبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني.

 

كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي

تويتر