التحصين العقلي والنفسي

د. أحمد الإمام


يتعرّض أناس كثر لإغواءات شتى، ويخضعون لألوان متنوعة من الإغراءات أو الضغوطات النفسية أو الاسـتـدراجات العقلية للإيقاع بهم في مخاطر السلوكيات الخاطئة، والضياع في متاهات الانحراف. قد يصرّ بعضهم، بمحض إرادته، على خرق الضوابط المجتمعية، رغبة في استثارة ردود الفعل الأسرية، أو الخوض في مغامرات يثبت فيها قدرته على تجاوز القواعد المتعارف عليها؛ سواء بدوافع اضطرابية وأحياناً مرضية، رغبة في التحدي، أو محاولة لوضع نفسه على حافة الهاوية لاختبار مكانته لدى محيطه وذويه.

 

أما أساليب الاستقطاب من طرف جماعات الجريمة المنظمة، وبعض الفئات الإجرامية، أو رفقاء السوء؛ فتعتمد بالأساس على تضخيم انفعالات الشخص، خاصة المراهق، وتأجيج حماسته تجاه بعض العناوين المفرغة من محتواها الحقيقي؛ كادعاءات الحرية أو التشدد بدعوى الحق، أو المواجهة تحت عناوين التحرر من الواقع المتخلف وهلم جرا من مظاهر الحق التي تُخفي الباطل المُضمَـر.

 

ترتكز خطة الإضلال على إبعاد الضحية عن مراجعه الذاتية، وبتر كل أواصر علاقته بأسرته، وذلك بتضخيم بعض الأخطاء الاعتيادية من طرف أحد الأبوين أو كليهما ضمن العلاقات الأسرية، وتحميلها على غير محملها؛ ودفعه لمعاداة قيم مجتمعه ومحاربتها علانية أو خفية، فترى المرء متنكراً لكل المحاسن التي بنت شخصيته، وربت مداركه.

 

تأتي بعد ذلك مرحلة تدمير الاستقلالية، وسحق الثقة بالذات، وجعل الفرد تابعاً خاضعاً منصاعاً لأهواء من يسخرونه لمصالحهم؛ بل الأدهى من ذلك يشككونه في كل خطوة قد يقررها بنفسه، لدرجة أنه يصبح مستسيغاً الاستضعاف، لإفقادهم إياه كل معاني المبادرة الذاتية، والقدرة على التحليل، واتخاذ موقف شخصي مبني على محاكمة عقلية لواقعه المعيش. غالباً ما تسعى الفئات المعادية للمجتمع إلى الهيمنة العقلية والنفسية، والسعي إلى توريط الشخص المستقطـَب من مختلف الفئات والشرائح، في سلوكيات منحرفة قصد قطع حبل العودة أمامه إلى مرجعياته الأصلية، خاصة أسرته؛ حيث يتخوّف الفرد من اللجوء إلى مجتمعه تفادياً للعقاب أو الازدراء أو النبذ؛ وذلك بعدما يكتشف حقيقة الأهداف السلبية والأهداف الإجرامية التي تنطوي عليها سرائر مجموعته؛ بل يسعون إلى تأجيج كل مشاعرالخوف، وكذا الحقد والبغضاء والكراهية بكل الأساليب، ولا يتركون مدخلاً ضيقاً لإثارة العدوانية إلا وسلكوه رغبة في قطع كل روابط الانتماء المجتمعي، واستبداله بخبث التكتل المنحرف.

 

ينبغي ألا تغفل الأسرة عن ضرورة احتواء مختلف أفرادها من دون التخلي عنهم للتأثيرات الخارجية، التي تستغل أبسط الخلافات أو الصعوبات أسوأ استغلال، فمهما كانت درجة الخلافات التربوية والعلائقية، يجب المحافظة على الروابط الأسرية، ومرافقة الفرد المتعرض لضغوطات، لتمكينه من تنمية استقلاليته، ودعم ملكات التمييز الصائب، والاختيار الصحيح، والقدرة على مواجهة الابتزازات، ووضع حد لكل أنواع الاستدراج.

 

تضطلع المؤسسات بمهمة كبيرة لتأطير مختلف شرائح المجتمع، صغارا وكبارا، على جميع الأصعدة، تربويا وثقافيا وتراثيا ورياضيا وعلميا، وكل أنواع الأنشطة، والاهتمامات من أجل تقوية أواصر انتمائهم لقيمهم الأصيلة، وتمكينهم من تفريغ كل شحناتهم الإنفعالية واندفاعاتهم التفريغية وانتقاداتهم المرحلية لبعض مظاهر حياتهم، وجعلهم يرفعون التحدي للبناء وتحسين ما يرونه سلبيا ضمن الثوابت المرجعية وترسيخ روح الافتخار بهويتهم، وتعويدهم على تجاوز بعض مظاهر السلبيات التي قد يعانون منها، والتميز برفع تحدي التشييد في مضمار الواقع المعيش. تقوم الحصانة العقلية والنفسية على تقوية جذور الانتماء إلى المرجعيات الثابتة، والاستقلالية بالاعتماد على النفس وقوة الثقة بالذات وحب الهوية والاجتهاد لتحسين كل الأوضاع المعاشة من دون مغالاة أو تضخيم للسلبيات، بل حصرها وتحديدها لمعالجتها، فما تطور المجتمعات وارتقاؤها إلا بجهود أفرادها الذين يرون في كل ثغرة جبهة يشيّدون فيها الصروح العتيدة التي لا تزيد كيانهم إلا شموخاً وعلوّاً.

تويتر