Emarat Alyoum

«المسافر».. لا نجاة من الحياة إلا بالموت

التاريخ:: 05 مارس 2008
المصدر: زياد عبدالله -دبي
 
استعادة فيلم مايكل أنجلو أنطونيوني «المسافر» إنتاج عام 1975 فعل يأتي من رغبة إنسانية متأصلة، تتمثل بتغيير الحياة جذرياً في لحظة منفلتة من المنطق، لدرجة تصير فيها هي المنطق، كل المنطق.

وللإيضاح أكثر، فإن شخصية هذا المسافر في فيلم أنطونيوني، أي ديفيد لوك المراسل الصحافي الذي جسّد شخصيته جاك نيكلسون، تأتي مثالاً صارخاً على نقطة انعطاف درامية في حياة أي إنسان متى قال: لا أريد أن أبقى على ما أنا عليه، سأكون انساناً آخر اعتباراً من هذه اللحظة، فيفعل.  

هذا يقودني، قبل الغوص في فيلم «المسافر» إلى رواية بول أوستر «ليلة الوحي»، التي تسرد حياة روائي جنباً إلى جنب مع رواية يكتبها هذا الروائي، تكون عن شخصية تنجو من موت محتّم إثر وقوع عارضة خشبية،

الأمر الذي يدفعها للسفر مباشرة إلى أبعد ولاية عن الولاية التي يعيش فيها، هاجراً عمله ونجاحه وزوجته وأولاده، وكل ما يمت بصلة لحاضره.  

ودون أن نغرق في تفاصيل ذلك العمل الروائي الرائع، فإن تلك الشخصية -كما يكتبها ذلك الروائي- تصل إلى طريق مسدود، على اعتبار أن كاتبها لا يكمل الرواية، أما ديفيد لوك فيُقتل في فيلم أنطونيوني، يقتل لأنه بقي مصرّاً أن يكون شخصاً آخر اسمه مستر روبرتسون.

وبما أنني وصلت إلى نهاية الفيلم قبل أن أسرد أي شيء عنه، فمن الضروري أن أبقى في النهاية، على اعتبارها على قدر كبير من الجمال، ويكفي أن أقول إننا نشاهد جريمة مقتل ديفيد، دون أن نشاهدها حقيقةً،

فبعد حديث ديفيد مع عشيقته التي يتعرف إليها أثناء تنقلاته، حين تقول وهي تضع يديها على عينيه «أليس مؤلماً أن يكون المرء أعمى؟»، فيروي لها ديفيد عن صديق له بقي أعمى لأربعين سنة، وحين أعادوا له البصر،

لم يجد العالم كما تخيّله، لا بل رآه مليئاً بالقذارة، وبقي لثلاث سنوات يجلس في غرفته دون ضوء على أمل أن يعود أعمى، ولينتحر بعد ذلك. بعد ذلك الحوار السوداوي، يبقي أنطونيوني الكاميرا مثبتة على نافذة غرفة ديفيد ذات القضبان،
 
لنشاهد أن امرأته قد ذهبت وهي تمر من أمام النافذة - امرأة لا يرد ذكر اسمها في الفيلم وقد جسّدت شخصيتها ماريا شنايدر- تتواصل اللقطة لأكثر من عشر دقائق، حيث نرى طفلاً يرمي حجراً على كلب يمر من أمامه،

وعجوزاً جالساً لصق الحائط، وغير ذلك من مشاهد إلى أن نرى سيارة تصل وينزل منها شخصان ندرك أنهما في طريقهما لقتل ديفيد، وتبقى الكاميرا ثابتة، إلى أن تخرج عن القضبان، أي يصير المشهد دون قضبان،

حيث نرى سيارة شرطة تقف وتنزل منها زوجة ديفيد، وهنا تتغير اللقطة إلى مشاهدة ديفيد مسجى على سريره. نعود من النهاية لاستكمال قصة الفيلم، المتمثلة بأن ديفيد الذي نراه في إفريقيا يعمل مراسلاً صحافياً،

ويسعى لمقابلة زعماء الجماعات المتمردة، يعود إلى فندقه فيجد النزيل الوحيد الذي يقاسمه الفندق ميتاً، فيضعه في غرفته، ويبلغ عن وفاته هو -أي ديفيد لوك- ويستبدل صورته بالصورة على جواز سفر المتوفى، ويصبح مستر روبرتسون،

ولنكتشف بعد ذلك أن روبرتسون تاجر أسلحة، وليقوم ديفيد بلعب دوره في إحدى الصفقات، إلى أن يتعرف إلى المرأة مجهولة الاسم، والتي تكون رفيقة تنقلاته الوحيدة، وصولاً إلى قتله، كما أوردنا في السابق.

جميع أحداث الفيلم تجري في مناطق خالية من البشر، وإن كان لابد لهم أن يحضروا فالقليل منهم، ويبقى ديفيد طوال  الفيلم يهرب من كل شيء، لا بل إنه يزيد من حجم هربه كلما مرّ زمن الفيلم، وفي الدرجة الأولى من نفسه الضائعة التي تمقت كل ما عاشه، وكل ما سيعيشه،

كما تطلعنا النهاية التي يكون فيها الموت بسبب كونه المستر روبرتسون أفضل من أن يبقى ديفيد لوك، دون أن يكون ماضيه دافعاً لذلك، لكنها رهافة مفرطة تجعل منه هارباً أبدياً