Emarat Alyoum

بين اللوز.. الصنعة والاصطناع

التاريخ:: 20 فبراير 2008
المصدر: ياسر الأحمد
 المدينة واحدة، دمشق، لكن الحديث عنها لم يكن واحداً رغم أن النصوص كتبت في زمن واحد. هذه هي النتيجة التي يخرج بها باحث في أدب السيرة الذاتية، فالكتاب الأول الذي يتناوله جاء من خلفية إسلامية، وكان مليئاً بالرؤية الدينية والأحكام الأخلاقية النابعة منها.
 
والسيرة الثانية كتبها رجل عثماني الهوى فقدم تصوراً لدمشق تحت الحكم العثماني معتبراً أنه الوضع النموذجي، الشخص الثالث كان «ابن البلد» كما يقال، وسيرته الذاتية اختلطت بسيرة الحارة وأحلام الصبا ومشاغل الجيران. وكل منهم صبغ المدينة بتصوراته الخاصة، وقدّم في الواقع عرضاً لهويته أكثر من عرضه للمدينة كما كانت.
 
تثير هذه المقارنة سؤالاً عن مدى صدقية السيرة الذاتية ،ومدى بحثها عن الأشياء كما حدثت فعلاً، دون الانشغال بتغيير ما حدث لمصلحة الراوي. فمقياس السيرة الذاتية الأهم هو البوح، والتحدث عن الخصوصيات، دون اصطناع البطولات التي لم تحدث.

وبذلك يستطيع كل منا أن يكتب سيرته الذاتية بطريقة تخصه وحده، عبر اليوميات المتقطعة، أو عبر السرد الزمني لمجرى حياته الخاصة، وارتباطها بالحياة العامة من حوله. وهذا النمط الأدبي الممتع ليس وليداً حديثاً في الأدب العربي، فقد كتب ابن حزم مثلاً في «طوق الحمامة» سيرته الذاتية الخاصة رابطاً بينها وبين فكرة الحب الأكثر عمومية؛ لنستمتع في النهاية بعمل جمالي خالص. 

وابن عربي أيضاً عرّج على سيرته الذاتية نوعاً ما في «الفتوحات المكية»، لنسمعه متحدثاً مع نفسه وعنها في بعض مقاطع الكتاب بشكل شديد الشفافية.

  وهناك سيرة أخرى أكثر فكرية كتبها أبو حامد الغزالي نوعاً من الإيضاح للناس وسمّاها «المنقذ من الضلال»، ليشرح فيها تحولاته وشكوكه الفكرية العميقة، وسيرورة أفكاره وصولاً إلى مرحلة الثبات كما يعتقد.  وهذه الأنماط المتداخلة تجعلنا نعتقد أن الفصل المنهجي الصارم بين الأجناس الأدبية لا يصمد كثيراً حين يكون الحديث متعلقاً بالسيرة الذاتية، فالكتابة بمختلف أشكالها تدخل تحت مسمى السيرة الذاتية لأنها تقدم دائماً جانباً من جوانب الذات.

فالرواية تحمل في شخوص أبطالها نوعاً من السيرة الذاتية للكاتب، والمقالة تقدم سيرة أخرى للكاتب ،ولكن عبر استبطان أفكاره. والسياسيون يقدمون سيرهم الخاصة التي لا أثق كثيراً بها، وأعتقد أنهم يضيفون أحداثاً ووقائع مزوّرة لتحسين صورتهم أمام التاريخ.

  شخصياً أعجبتني السيرة الذاتية التي كتبها جبرا إبراهيم جبرا في جزأين فهي بسيطة اللغة ومترعة بفلسطين والعراق معاً. وسيرة إدوار سعيد أيضاً تشترك في بساطة اللغة وتمتاز بالقدرة المذهلة أثناء تصوير أعماق الذات ومحرماتها وألعابها السرية. يمتعنا الحديث عن الذات؛
 
لأننا «سنكون بين اللوز» كما يسمي الشاعر الراحل حسين البرغوثي سيرته الذاتية الرائعة، لكن بينما نبحر بين اللوز نحتاج إلى أن ندور حواف الذات أكثر حتى لا يجرحها الاصطناع  أكثر.         
 ytah76@hotmail.com