Emarat Alyoum

«سيكون هناك دم».. يعيش الجشع فتموت الحياة

التاريخ:: 19 فبراير 2008
المصدر: زياد عبدالله - دبي

الدم يتخطى سفحه أو إهراقه إلى الباعث الذي يكمن خلف خوض تجربة زهق أرواح البشر لغاية في نفس القاتل، وهذا تماماً ما يحمله لنا فيلم «ذر ويل بي بلد» (سيكون هناك دم)، دون أن يكون هذا الفيلم الذي أخرجه القدير بول توماس أندرسون مساحة دموية بقدر ما هو حيز للتعرف إلى شخصية استثنائية معزولة عن الحياة نفسها، وقد وضعت نصب عينيها المال وبريق الذهب، والحكمة المعروفة المتعلقة بمن يفكر في جني ثروة، المتمثلة بأن عليه ألا يفكر في أي شيء إلا الكيفية التي يجمع بها المال.

شخصية دانيال بلينفيو، التي قدمها بأداء خارق دانيال داي لويس، نعم خارق -رغم كون هذا التوصيف ليس بغريب عن هذا الممثل- هي الفيلم، والفيلم هو دانيال، حيث نشاهده مع بداية الفيلم ودون أن يلفظ حرفاً واحداً كيف يحفر عميقاً في الأرض، وحيداً لا يساعده أحد، عميقاً في باطن الأرض ينقب عن أي شيء نفيس ليقع على الفضة، ولتتوالى بعد ذلك أعمال تنقيبه تحت الأرض، ليستبدل بالفضة النفط الذهب الأسود، وقد أحاط به عدد من العمال.

بما أن الفيلم لم يعرض بعد في دور العرض المحلية سأكتفي بسرد خطوطه العامة، وليكون الفيلم نفسه دعوة إلى ذلك، ما دامت شخصية دانيال وحدها تستأثر بالإعجاب والحديث، ولتكون الأحداث التي تعصف بحياته معبَراً إليه، هو الصامت، المقطوع من شجرة، حسب التعبير الشائع الصالح للتحريف ليصير مع دانيال القاطع هو نفسه لتلك الشجرة، فهو كما يعترف يكره البشر جميعاً، كما أنه -وفقاً لأحداث الفيلم- لم يعرف امرأة في حياته، وحديثه القاطع والحاسم والمختصر يخفي تحته عواصف هوجاء قد تزيح كل من يقف في وجهه، بمن فيهم ابنه الذي يرافقه كظله، ابنه الذي فقد سمعه من جراء انفجار بئر النفط بينما كان قريباً منه سيعترف له في النهاية بأنه لم يكن ثمرة حب أو زواج، بل لقيط وجده في أرض جرداء.

يحمل دانيال كل الإصرار على الثراء، وجنون المال الذي سيكون متناغماً بالتأكيد مع الجشع، بحيث يجسّد أوائل المهاجرين إلى أميركا الباحثين عن ذهب في تلك الأرض العذراء، إضافة لبذرة الأنانية، والطموح الذي يتحوّل مع تسويغ كل شيء إلى تمركز حول الذات، يجعل من عبارة مثل «أنا ومن بعدي الطوفان» ناظماً لأفعاله. فهكذا يقبل أن يستخرج دانيال النفط من أرض عائلة «ساندي» وهكذا يساير الكاهن الشاب الأكثر جشعاً من دانيال نفسه في أن يبني له كنيسة، دون أن يقبل مباركته لبئر النفط. بهذه الفردية لا يقبل معونة أحد، وحين يأتيه الكاهن يطالب بحصته من المال الذي وعد فيه عائلة سانداي ينهال عليه بالضرب ويمرّغه في النفط، وليمسي الصراع الرئيس في الفيلم بين دانيال بما يمثله والكاهن والنفاق الديني الذي يجسده في أخذ ورد، إضافة للصراع بينه وبين الشركات الكبرى التي تسأله أن تتولى نقل النفط وتوزيعه، دون أن ننسى الأخ الذي يظهر فجأة في حياته.

فيلم «سيكون هناك دم» يضع الجشع مقابل الدين، المال مقابل العائلة والحياة والحب، بحيث يبقى المال فقط، وإلى جانبه الكحول الذي يغرق فيه دانيال مع نهاية الفيلم وحيداً معزولاً في قصره مثله مثل كل من يأخذه بريق الذهب والسلطة دون أن يجد ما يوازيها أو يتناغم معها من حياة إنسانية طبيعية.

وهكذا فإن الفيلم يضع أمام المشاهد شخصية استثنائية من الصعب محوها من الذاكرة؛ ذلك لأنها مبنية بدقة، ومتصارعة في داخلها، وإشكالية في حد ذاتها، لدرجة أن الدراما ساكنة في أعماق تلك الشخصية، الأمر الذي يدفعنا، مع عناصر أخرى كثيرة متعلقة بالصورة والإيقاع لوصف «سيكون هناك دم»، بالفيلم الرائع، ولعل ترشيحه لثماني أوسكارات خير دليل على وصفنا له، مع السؤال إن كان دانيال داي لويس سيفعلها مجدداً ويحصل على أوسكار أفضل ممثل في دور رئيس، كونه قد سبق وحصل عليها عام 1990 عن دوره في فيلم «ماي ليفت فوت» (قدمي اليسرى)، سؤال ليس لنا أن نجيب عنه إلا بتمني ذلك لأنه يستحق الكثير.