ذكرياته في سان دييغو مطرزة بالقصائد وخفة الروح

عوض بن حاسوم الدرمكي وعشق مدينة تستحق

صورة

من مجرد مقيم مؤقت في مدينة على الطرف الآخر من العالم، إلى عاشق متحيّز لكل بقعة فيها، تحوّل الشاعر الإماراتي عوض بن حاسوم الدرمكي، الذي ينثر ذكرياته عن مدينة سان دييغو بصورة مختلفة، مطرّزة بالقصائد وخفة الروح والإيجابية والانتقاد أيضاً.

اقتباس

قال عوض بن حاسوم الدرمكي عن «فاتنته» الأميركية: «تبقى بعض الأماكن إكسير حياة، وبلسم جراح، وابتسامة دافئة على مُحيا المسافر.. وكذلك كانت سان دييغو.. فصباحاتها كانت إشراقة روح، ومساءاتها تطييب خاطر، وأيامها عزف يأخذ بمجامع الروح وينسيها ما قد يكون ألم بها من هم الدنيا ومواجع الأيام... لازلت أذكر ذلك الكرسي الخشبي وتلك الطاولة الصغيرة خارج مقهى (جولد فيش) والمساء البارد تمتزج به أصوات الموج المتلاطم على الجرف الصخري وعبق أشجار السنديان.. بينما نافذة بعينها كانت كل ليلة أراها من البعيد تشاكس ظلمة الليل بأضواء شمعة تتراقص على شمعدانها حتى تذوب بالكامل قبل أن ينتصف الليل».


تلغرافات

يحمل ختام كل فصل أو مقطع من «ذكريات سان دييجو» ما يشبه التلغراف المكثّف، والرسالة المركزة، تقطر ما يريده الكاتب عوض بن حاسوم الدرمكي. كما تحمل العديد من المقاطع ــ خصوصاً الشعرية ــ «رسائل مشفرة» إلى شخصيات سرّها بينها وبين المؤلف نفسه.

تستحق العشق المدن التي تسقط كلمة الغربة من قاموس زائرها، فتحتويه مثل ابن من أبنائها، وفي المقابل توجد مدن بلا قلوب، تضخم وحشة المغترب، وتجعله يحصي أيامه كي يعود.. ويبدو أن سان دييغو الأميركية من النوع الأول؛ إذ وقع بن حاسوم في غرامها، ولم يكتف بأن يكون مرشداً سياحياً يعدّد جماليات المدينة وتاريخها، بل فصّل حكايته معها في كتاب يقع في 322 صفحة صدر حديثاً بعنوان «ذكريات سان دييجو».

عاد بن حاسوم إلى قصاصاته بعد فترة، وقلّب في ذاكرته بتأنٍ، لكي يسرد تلك الأعوام التي ودّع فيها مدينة العين، إلى الجانب الآخر من العالم، حيث سان دييغو التي تقع في أقصى جنوب كاليفورنيا، لكي يحصل على شهادة الماجستير، ومن اللحظة التي وضع قدمه فيها، صارت «فاتنته الجميلة»، التي يصطحب القارئ في رحلة طويلة إليها، فيعرّفه بمعالم كثيرة فيها، ويحدّثه عن تفاصيل بالجملة (حلوة ومرة) خلال تلك الأعوام التي قضاها بين ربوعها.

يرسم بن حاسوم، الذي أحب الخرائط مبكراً، خريطة جمالية لسان دييغو، ويعلن بشكل صريح تحيّزه لتلك البقعة من الأرض التي قضى فيها أعواماً، بل ويدعو قراء كتابه إلى زيارة لن يندموا عليها لتلك «الفاتنة»، ويكون آخر ما يخطّه المؤلف: «سأضع قلمي جانباً الآن ولكن قبل أن أودعكم أطلب ممن لديه القدرة أن يضع سان دييغو ضمن خطط زيارته هذا العام، فمهما وصفت العطر فلن توفه حقه حتى تشمه بنفسك، ولن تحس وصف نور الشمس مهما فعلت وحاولت حتى يراها الإنسان نفسه.. وكونوا على ثقة بأن من سيزورها لن يندم.. أقول ذلك ثقة لا أملاً فقط!».

يحرص عوض بن حاسوم في كتابه على التفاصيل الصغيرة، يسردها بشكل عفوي، لا يكتفي بالعموميات، والحديث المطلق في الهواء، بل يضع نفسه بين يدي القارئ، ويعرّفه بأفراد من أسرته: أخت صغيرة طلبت منه أن يكتب لها قصيدة، وأخرى تشكو له حادثاً طريفاً ما، وإحساساً بالوحشة حينما يتذكر بن حاسوم الأخت ذاتها، وزيارتها في العيد، والتي حرمته الغربة إياها.

وبخفة روح تتنقل بين الكثير من المحطات الشخصية يتحدث المؤلف عن اسمه الذي نال نصيباً من السخرية (وليس اخوانا الصعايدة والزولات فقط)، مشيراً إلى أن «عوض» في «ستار بكس» تتحول إلى «علي»، إذ كيف ستكتب فتاة المقهى «عوض» وكيف ستلفظه، والاسم نفسه حاضر في موقف آخر، للحديث عن سبب إطلاقه على الصبي الذي جاء بعد رحيل آخر، فأملت الأسرة ــ بنصيحة آخرين ــ أن يكون ذلك المولود «عوضاً» عن الراحل المفقود.

لم يكتف عوض بن حاسوم بسرد رحلته عبر شكل تقليدي تتصدره التواريخ واليوميات التفصيلية، فثمة إعلاء لشكل آخر تتسيّده محبة الكلمة، ومرافقة القصائد التي تحفل بها صفحات كثيرة في الكتاب، وكذلك السرد الساخر الذي يتنقل بخفة روح بين العديد من الأساليب واللهجات.

من الإنصاف الإشارة إلى أن حالة «العشق» التي جمعت بين سان دييغو وعوض بن حاسوم الدرمكي، لم يكن مبعثها جماليات المكان وجغرافيته الخاصة وفسيفسائه البشرية فقط، فثمة عين أرادت ذلك، بحثت عن ذلك الجمال وتفاءلت به، نمّت كل جوانبه في داخل صاحبها، وتفاعلت معه، ولذا حاولت نقله إلى الآخر، لعله يتشارك مع المؤلف تلك الذكريات.

وضمّن ابن مدينة العين كتابه سوالف إماراتية، تحاول الوصول إلى قلب القارئ، فلا تغيب الهوية عن مفاصل العمل، فثمة حضور لشخصيات و«رمسات»، وكذلك انتقاد لما يراه بن حاسوم يستحق التقويم بشكل أو بآخر، إذ يسرد قصصاً عما رآه، وما قرأه، يوظّف حادثة من هنا وهناك، كي يستفيد منها القارئ، في إطار خفيف لا يشعره ــ في كثير من الأحايين ــ بأنه أمام ناصح، بل أمام صديق، يفكر معه، وينشد أن تكون الحال أفضل. لم تغب الإمارات وأهلها لحظة عن عوض بن حاسوم في كتابه، يتطرق إلى «صحبة خير» هناك في الغربة الأميركية، وعن زائرين عابرين، لم يتركوا أثراً، وعن نماذج بالجملة يحفل بهم الكتاب، بعضهم مذكور تصريحاً، وآخرون تلميحاً، إلا أن الحديث عن الجميع لم يتخط حدود الفطنة، والنقد البناء الذي ينصرف إلى الفعـل، لا إلى الشخـص في حد ذاته.

كما حضرت الثقافات الأخرى، وشعوبها المختلفة، فثمة آسيويون ولاتينيون وأوروبيون، لا يتحرّج المؤلف من البوح بأنه تعلم من الأميركيين شيئاً، ومن الإيطاليين شيئاً آخر، ومن البرازيليين ثالثاً، ويورد أسماء لكثيرين من دول مختلفة، عايشهم خلال غربته المؤقتة في بلاد العم سام، والتي كان نتاجها ذلك الكتاب الحافل بالدروس والأشعار والابتسامات في الغالب، ونادراً ما تكون هناك لحظات حزينة، إذ لا تخلو الحياة من هذا وذاك.

تويتر