رواية السعودي محمد حسن علوان المرشحــة لــ «البوكر»
«القندس».. بوح لـكائنات نهر غريب
«توصين شيء يا أمي؟ رح الله لا يردك. ما أبي منك شي.. جعلك ما ترجع». ربما هنا عتبة أولى للدخول إلى عالم رواية «القندس» للكاتب السعودي محمد حسن علوان، ومفتاح التعرف إلى أزمة ساردها الأوحد، ورحلة اغترابه، والتسامح مع بوحه الطويل لذاته أحياناً، ولنهرٍ يبتعد عن بلاده آلاف الأميال، ولكائن من كائنات ذلك النهر أحايين أخرى.
أجواء من أجواء الراوية: «ستظن العائلة أنه (القندس) لطيف ومتعاون، لكن بحاجة الى نهر وضفة ليكتشفوا مثلي أننا سرقنا جيناً خفياً من جيناته القديمة وخبأناه في أرحام جداتنا البعيدات، فصرنا عائلة قلقة وحذرة، فظة وباردة، ونفعل كل ما تفعله القنادس تماماً: عندما يقرض القلق عظامنا نقرض بقية الأشياء، وعندما نجمع بعض الحكمة نشرع في بناء السد، وعندما يعطف علينا الغرباء نسرق تمرهم وطعامهم. الشيء الوحيد الذي لا نجيده مثلها هو اهتمامنا ببعضنا رغم أنّا أقمنا في بيت واحد مثلما تعيش هذه الحيوانات القارضة معاً تحت آلاف الجذوع القديمة. هذا هو عيبنا الأزلي الذي لن يغيب عن حذق القندس. سيلاحظ منذ الليلة الأولى له في بيتنا أننا نأكل من طعام واحد لا على طاولة واحدة، ونقيم تحت السقف نفسه ولكل منا نوء مختلف، ونحتفل بنفس الأعياد ولكن ابتساماتنا متنافرة. سأبوح له عندما يسألني عن السبب انه القلق. وحده القلق الذي أبقى بيننا العهد وجعل كل ما بيننا كعائلة مجرد عهد.. منذ وصل أبي الى الرياض ووجهه معفر بالدين واليتم وهو يشعر بأنها حريق كبير يوشك أن يأخذه، ولذلك ربانا كفرقة إطفاء، نقف متماسكي الأيدي على محيط دائرة وندير ظهورنا بعضنا الى بعض بينما تطل وجوهنا الى الخارج دائما. ننظر الى الناس أكثر مما ينظر بعضنا الى بعض. ونسمع عن حرائق الآخرين أكثر مما نسمع عن حرائقنا العائلية». |
بين أب وأم منفصلين منذ زمن، وأخوة أشقاء وغير أشقاء، ونصف حبيبة بدرجة عشيقة، تتبعثر أوراق راوي «القندس»، وتتنـقل مكانـياً بين فضـاءات عـدة، أبرزها العـاصمة السعودية الرياض ومـدينة بورتلانـد الأمـيركية، وكانت الأخيرة محطة النهاية التي تمـنى الـراوي الاستـقرار فيـها، بعد اعتماد أوراق هـجرته.
تبدو «القندس» التي تنافس على الفوز بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)، رواية شخصية تكتب سيرتها، وأيضاً سيرة غيرها، تدير دفة السرد كيفما يحلو لها، تحتكر هذا الدور كنوع من الثأر ربما، أو الفضفضة المتقاطعة مع الثرثرة المبررة أحياناً، والتي تشتمل على تفاصيل ومنمنمات، تحاول أن ترمّم فراغا في جدران النفس وسقفها المثقوب، لاسيما أن صاحبها خبر المعاناة مبكراً، فالوالدان قد انفصلا وهو في سن صغيرة جداً، وكأن ميلاده كان سبباً في ذلك. وتعمقت الهوة بين «غالب» والجميع، أب وأم وإخوة، وحتى الكائنات اللينة التي يفترض أن تكون كذلك، إخوته البنات، حُرم من أن يمارس دور الأخ الشفيق عليهن، بفعل العادات والجدران العازلة التي شيدت مبكراً في حياته.
استهلال
يشي استهلال «القندس» الصادرة عن دار الساقي في 319 صفحة، بقلق عارم، يستولي على شخصية تحاول الابتعاد، قدر ما يمكن، كيما تنجو بنفسها، محاولة الخلاص مما ترسب بداخلها على مدار أكثر من 40 عاما، حاصلها تاريخ من الخيبات الذاتية التي تتماس مع خسارات عامة، على المستوى الأسري الصغير، وأيضاً على المستوى الاجتماعي.
وتنطق المشاهد الأولى في الرواية بوجود صراع داخلي، يجعل بطل الحكاية يرى في الحيوان الأميركي الغريب ملامح من أفراد عائلته، فأسنان «القندس» البارزة تشبه أسنان أخته (نورة)، بينما ردفه السمين يذكره بأخت ثانية (بدرية)، فيما يستدعي منظر القندس وهو يستولي على تمرة من يده صورة الأب الذي «ينتزع الحياة انتزاعاً كأن نموها لا يتجدد». وفي النهاية يد القندس تذكره بيد أحد الأخوة (سلمان).
منطقة غائمة
أما حكاية غالب مع نصف الحبيبة (غادة) فذات شجون، إذ يتشابك غزلها ويتعقد، لتظهر كأنها ذروة الأزمة بالنسبة اليه، فما بين غالب وغادة يقع في منطقة غائمة: حب مطعّم بمنفعة متبادلة، شبه عشيقين يتبادلان اللقاءات على أسرّة في عواصم مختلفة، يتواصلان بالرسائل المشتعلة حينا والمحايدة العادية أحيانا، يتصافيان ويتخاصمان على مدى أكثر من 20 عاما، ولا يريدان للقصة أن تنتهي، حتى ولو ارتبطت غادة بآخر مهم، وصار لها منه بنون دخل بعضهم الجامعة، إذ تظل اللقاءات لضمان استمرارية جزء درامي منكّه بالعشق من قبل الراوي الذي بدا كأنه منتش ومعذب بتلك اللقاءات في الوقت ذاته.
ولأن «غالب» يبدو الحاكم بأمره في سرد «القندس»، فهو لا يترك الدفة لآخر يوجهها، ولا يدع فرصة لصوت آخر أن يعلو، فكل شيء يمر عبر رؤيته هو، ينقل ما يريد، ويعكس مشاعر الآخرين عبر مرآته الصغيرة أو الكبيرة، حسبما يتراءى له، وربما كان هناك قارئ ما بحاجة الى أن يستمع من غير غالب، لكي تتاح لذلك «الغير» فرصة البوح، أو الدفاع (فنياً) عن خياراته في هذه الحياة. بدا ذلك مع شخصية غادة تحديداً، التي حال غالب بينها وبين البوح، وآثر أن يواريها ويصنعها على عينه، دونما إتاحة أي قدر من الحرية لها، لتظهر طليقة بلا وصاية على مسرح الرواية، وتطير وحدها في ذلك الفضاء، كاشفة عن وجوه أخرى، وليس مجرد «بروفيل» وحيد جهزته ريشة غالب.
مسار أنيق
غزل المبدع محمد حسن علوان لغة «القندس» على مهل، لتتواءم مع بوح الراوي، وتداعياته الطويلة، وتنقلاته الزمانية والمكانية، ولتكون اللغة على قدر أربعيني يختصر محطات العمر، ويطلب استشفاء بالكلمات ربما، ويرفض العيش كقندس يضيع الحياة في بناء سد، حتى ولو نثرها في مساحات أخرى، المهم أن تكون تلك المساحة خاصة به غير مفروضة عليه.
ورغم أن لغة «القندس» سلكت في الغالب مسارا أنيقا لا يحيد عنه الكاتب، إلا أن الروائي توكأ كثيراً على «مثل» وأخواتها التشبيهية، وتكررت تلك التيمة بشكل أضر ببهاء اللغة أحياناً، إذ تحولت «مثل» تحديداً الى قنطرة لا داعي لها، خصوصاً أن العبور الى حيز العبارتين أو حتى المشبه والمشبه به، كان لا يستدعي تلك القنطرة التي توالت بشكل لافت في كثير من صفحات الرواية.
يشار الى أن صاحب «القندس» محمد حسن علوان من مواليد 1979. واختير ضمن أفضل 39 كاتباً عربياً تحت سن الأربعين من قبل مهرجان «هاي فيستيفال» العالمي في دورة بيروت 39، ويحمل شهادة الماجستير في إدارة الأعمال وبكالوريوس نظم المعلومات. وله الى جانب «القندس» روايات «طوق الطهارة»، و«صوفيا»، و«سقف الكفاية».
وتتنافس «القندس» مع خمس روايات أخرى («سر البامبو» لسعود السنعوسي، و«مولانا» لإبراهيم عيسى، و«يا مريم» لسان أنطون، و«أنا وهي والأخريات» لجنى فواز الحسن، و«سعادته السيد الوزير» لحسين واد، للفوز بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر).
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news