في مجموعتها القصصية الجديدة «لا عـــــــــــــــــــــــزاء لقطط البيوت»

عائشة الكعبي.. مبدعة« ترقب » بـمحبـة البشر والأشياء

المجموعة تضم 57 أقصوصة.

مبدعة قلمها «يتلصص» بمحبة على البشر والكائنات والأشياء، تحلم بأن تكون لها ألف روح، لتكتشف ما يشعر به الآخرون، فتقتحم عوالم الكثيرين: صبي يتعجب من تقسيم الناس إلى مهمين ومهمشين، عامل بلدية يكنس الشوارع، مهموم ينتظر إشارة المرور، فرشاة أسنان منسية، أو حتى مغسلة يزهو عليها «شيء» مدعيا انتماءه إلى جنس أسمى، إنها المبدعة والمترجمة الإماراتية عائشة الكعبي، ومجموعتها القصصية الأخيرة «لا عزاء لقطط البيوت».

نجت مجموعة عائشة الفائزة بالمركز الأول في جائزة المرأة الإماراتية في الآداب والفنون للعام الجاري، نجت من الوقوع من براثن التحيز ضد الآخر، أو تقديم صورة أحادية متحفزة ضد الرجل، كعادة كثيرات من المبدعات، ممن يسرن على خط واحد، وتكون صفحات كتاباتهن ساحة للخلاص، وتحقيق الذات، ورد الاعتبار، والانتقام من «سي السيد» الذي يراهن «قطط بيوت» ليس أكثر.

يطل الرجل في أقاصيص المجموعة في أشكال وطبائع متعددة: قاهراً، ومقهوراً، ابناً، وزوجاً، وشيخاً، ثرياً، وفقيراً، مخلصا، وخائنا، طيبا، وشريراً. في «سيرة عداء»، تتعاطف الساردة مع أحد تلك النماذج الذكورية فتقول: «عندما رسب في امتحان الثانوية العامة، التحق بالجيش لتمشي الحياة. وحين ضغط عليه والده، تزوج من ابنة عمه لتمشي الحياة. وحين فقد ذراعه عمل حارساً لتمشي الحياة. وحين سرق ولده حمل عنه التهمة لتمشي الحياة. وحين سقط إثر نوبة قلبية، علم أن الحياة لم تكن تمشي، بل تركض نحو خط النهاية».

لكن ما تلبث بطلة إحدى القصص (انفصال) أن تتمرد، فتجلد ظهر ذلك المتسلط، وتعلن أنه قد آن أوان التحرر: «منذ مجيئي إلى هذا العالم، وأنا لا أمشي إلا برفقتك، تلازمني في كل مكان كظلي، تسلبني استقلال كينونتي، كأنه كتب علي أن أظل إما خلفك أو أمامك. لقد سئمت هذه الحياة سأتمرد على ازدواجية المصير هذه، وسأخلق لنفسي حياة أخرى بمنأى عنك». فيما في أقصوصة ثالثة تظهر الأنثى في أشرس حالاتها، وذلك حينما تقسو بطلة «راحة» على الآخر، فتأنف من التقاط «بروش» غال سقط منها في المرحاض، وتستدعي في التوقيت ذاته، صورة من كان زوجا، إذ سقط هو الآخر في «براثن مومس»، ولم تمد له البطلة يداً، أو تمنحه فرصة جديدة، مقدرة الضعف البشري، وصافحة عن حبيب، إن كان يستحق هذا اللقب.

مشاهد

إضاءة

ولدت عائشة خلف الكعبي في مدينة العين، و«نشرت أول أعمالها وهي على مقاعد الدراسة العلمية في جامعة الإمارات، ثم أبعدها التخصص في علم الأحياء المجهرية وغربتها في الولايات المتحدة عن هوايتها ردحاً من الزمن، لكنها عادت حاملة شهادة الماجستير (في علم الأجنة من جامعة أركنساس)، واستظلت بحروفها على شطآن الصفحات الثقافية المحلية والإقليمية، وتنقلت بمسيرتها المهنية بين العمل أستاذة مساعدة بكلية العلوم جامعة الإمارات، وأميناً عاماً مساعدا للجنة الوطنية الإماراتية لليونيسكو، ثم خاضت تجربة التقديم الإعلامي مذيعة للأخبار بقناتي أبوظبي ودبي.

واكب نضوج قلم عائشة أدبيا تجوالها بين دفات أشهر كتاب القصة العالمية، وكان عشقها للأدب العالمي بوابتها إلى عالم الترجمة، فقدمت مجموعة من القصص والأشعار العالمية بأسلوب شاعري موسيقي فريد، وكونت بسلاسة لغتها وتذوقها الفذ تصوراً أخاذاً للنص المترجم لا يقل في قيمته عن النص الأصلي. وفي عام 2007 طبعت عائشة أول كتبها تحت عنوان غرفة القياس» كما جاء في التعريف بالكاتبة على الغلاف الخلفي لمجموعة «لا عزاء لقطط البيوت»، كما أن لعائشة العديد من الأعمال التشكيلية، وهي عضو اتحاد كتاب وأدباء الإمارات.

تلتقط القاصة الإماراتية في مجموعتها الصادرة أخيرا عن دار أزمنة في العاصمة الأردنية عمان، تلتقط مشاهد تثير الشجون في أحايين كثيرة، فتضع قارئاً ما أمام ذاته، خصوصا حينما يرى نفسه أحد ابطال الكاتبة في أقصوصة تحكي عن إنسان ممزق بين أمانة الكلمة والحقيقة، ولقمة العيش ومتطلباتها في زمن الأزمات، وفي مشهد مختزل الأسطر (تقليم) تقول عائشة الكثير، وتسخر ـ عبر إسقاطات ذكية ـ ممن شوهوا جمال الحياة، وتدين كل مزيفي الحقائق.

تبدو مجموعة عائشة الكعبي التي تضم 57 أقصوصة في 85 صفحة، تبدو مهمومة بالآلام الصغيرة، غير عابئة ظاهريا بما يدور خارج ذوات تلك الشخصيات، مخلصة لعوالمها، فلا تتمسح بالقضايا الكبرى، أو تدعي شيئا من خارجها لا تملكه، إذ يكفيها ما فيها، فبين شخصيات «لا عزاء لقطط البيوت» ثمة امرأة تعاني وحدة قاتلة، وأخرى تبحث عن وصفات للتخسيس، وثالثة تتوق للمسة حنان، وثمة طفل طيب، يبحث عن معنى الـ«في آي بي»، وثان يحلم بلقب لن يناله إلا بالتحايل، وثالث معاق يحسد صبيا يلهو على قدميه، وغيرهم كثير من النماذج التي تحفل بهم المجموعة القصصية.

تستحيل بعض الأقاصيص لدى عائشة، أو بالأحرى، معظمها، إلى قصائد نثر عفوية، مشاهد مكثفة، بلغة لها بلاغتها الخاصة، بعيدة عن التهويمات، والسعي وراء اقتناص صور بعيدة. تقول في أقصوصة بعنوان «انتظار»: «عندما كنت صغيرة، كنت أشفق على إصبعي الخنصر، وأمضي الساعات الطوال أتأمله محاولة معرفة إذا ما ازداد طوله عن الأمس، كان يكبر كبقية أصابعي إلا أنه لا يطاولها أبدا! ورغم ذلك فقد كنت على يقين بأنها مسألة وقت لا أكثر. وعندما كبرت، أدركت أن إصبعي الخنصر محظوظ جداً، لأنه من الرائع أن تظل الأصغر، ومن الشجاعة ألا تكبر».

تسقط صاحبة «غرفة القياس» التخوم «القواعدية» بين قصيدة النثر والأقصوصة في كثير من مشاهد مجموعتها الجديدة، تتماس مع فن الماغوط وأنسي الحاج، وكذلك مع فن يوسف إدريس وزكريا تامر، ربما غير عابئة بتصنيف، طالما أنها تستشعر أنها تقدم فناً صادقاً، أيا كان مسماه أو سماته أو قواعده، وغيرها من الإشكالات التي يعنى بها الناقد لا المبدع.

ومضات

تتحول أقاصيص في مجموعة عائشة، إلى ومضات خاطفة سريعة، لاسيما أن الساردة تلجأ إلى التكثيف الشديد فيها، فتصير الأقصوصة إيماءة خفيفة، مركبة من بضعة أسطر، في اختزال أقرب إلى روح الشاعر، وليس إلى نفس القاص الذي تستهويه غالبا ملامح الشخصية ومراحل الحدث، وجماليات المكان والزمان وغيرها من الأمور التي كانت لوازم قصصية، ربما قبل أن تتداخل الأنواع الأدبية، وتتناص مع بعضها بعضاً، في محاولة من الكتّاب، لتقديم حريتهم على ما عداها من القواعد. وفي نص بعنوان «ترقب» تقول الكاتبة «من خلف ستارة بيضاء، أستشعر ارتجاجات باب غرفتي، حين تقرع أبواب الغرف المجاورة». وهكذا تتكثف الحكاية في مشهد من ثلاثة أسطر (11 كلمة).

وفي عدد من مشاهد مجموعة «لا عزاء لقطط البيوت» تسترجع عائشة الكعبي ذاتها الشاعرة، مقدمة نصوصاً هي أقرب إلى الشعر منها إلى السرد القصصي، خصوصا حينما تلجأ إلى تيمات أسلوبية بعينها، كالتكرار، واللعب على بعض الألفاظ، وتحويل الجمل السردية إلى أسطر شعرية، والاعتماد على التكثيف الشديد، والاكتفاء بالإيحاء والرمز، بعيدا عن الإطناب الذي ليس معيبا في كل الحالات.

واللافت أيضاً أن ذلك المنحى الذي لجأت إليه عائشة مغاير تماما لما اتبعته في مجموعتها الأولى غرفة القياس، التي كانت إلى حد بعيد أقرب إلى القصة القصيرة في شكلها الكلاسيكي، إن صحت التسمية.

ومن أبرز الملامح التي تستوقف قارئ جديد عائشة الكعبي، هو حرص القاصة على نهايات كل مشهد، إذ تكثف ما تريده في عبارة ذات صدى، يبقى أثرها مع المتلقي، وتكون بمثابة ختام مميز، يجعل القصة أو المشهد باقياً في الذاكرة.

تويتر