بعضها يُثري النقاش والبعض الآخر يصبح نوعاً من الضجيج والجدال

تعليقات القرّاء.. أزمة دائمة لمواقع ومدوّنات الإنترنت

صورة

في سنواته الأولى، توقع عديدون أن يُمثل الإنترنت ساحة مفتوحة للنقاش الحر وتبادل الآراء والأفكار، بما يتجاوز الكثيرمن الحدود الجغرافية والاقتصادية والثقافية والفكرية التي تفصل بين الناس، وانتظر البعض أن تكون المساحة المتاحة للتعقيبات أو التعليقات ضمن معظم المواقع والمدوّنات نموذجاً مثالياً على هذه الفكرة.

من الناحية النظرية على الأقل، تتيح التعليقات لأي شخص أن يكتب ما يشاء، ويشارك برأيه حول المواد المنشورة، ويطَّلع على آراء غيره من القرّاء، بدلاً من عناء كتابة رسالة بواسطة البريد العادي أو الإلكتروني إلى المحرر، لا يطلع عليها سواه أو الفريق المسؤول عن التحرير.

لكن هذه الصورة الوردية المتفائلة تبدو بعيدة بعض الشيء عن الواقع القائم، الذي يُشير إلى أن تعليقات القرّاء تُشكل بدرجات متفاوتة أزمة دائمة لكثيرٍ من مواقع ومدوّنات الإنترنت باختلاف تخصصاتها ونطاق عملها.

ففي بعض الأحيان تتجاوز التعقيبات مناقشة محتوى المقال إلى أمور بعيدة تماماً، مثل الخلاف مع القرّاء الآخرين، أو الهجوم على الكاتب والصحيفة لسبب أو لآخر، والأسوأ هو استخدام البعض لخطاب يتسم بالكراهية والعنف اللفظي والتعصب لجنس أو طائفة، فضلاً عن خطاب فظ يؤثر في بقية القراء.

وتبنّت مواقع الإنترنت أساليب مختلفة في علاجها لمشكلة التعليقات، فخصص بعضها محررين لمراجعتها وحذف التعليقات المسيئة، وإبراز أفضلها في النسخ المطبوعة أوضمن نص المقال، والبعض استعان بالقرّاء أنفسهم لتقييم التعليقات بالإيجاب أو السلب، والإبلاغ عن التعليقات المسيئة أو البعيدة عن لُب الموضوع، كما قصرت بعض مواقع الإنترنت التعليق على القرّاء المسجلين باسمهم وبريدهم الإلكتروني، والبعض اشترط استخدام حسابات الشبكات الاجتماعية مثل «فيس بوك»، باعتبار أن التعليق بالهوية الحقيقية قد يدفع القرّاء إلى اختيار لغة مهذبة بعض الشيء في شرح آرائهم.

كما لجأ بعض الكُتّاب والمدوّنين ومواقع الإنترنت إلى حل جذري بمنع تعقيبات القرّاء على بعض المقالات، أو منعها من كامل الموقع، ربما أحدثهم مجلة «بوبيلار ساينس» العلمية الأميركية التي أعلنت في 24 سبتمبر الماضي، إغلاق الباب أمام تعقيبات القرّاء على المقالات والقصص الإخبارية الجديدة.

وبرر الموقع في بيان كتبته مديرة محتوى المجلة على الإنترنت، سوزان لاباري، القرار بالقول بداية: «التعقيبات يمكن أن تضرّ بالعلم»، وكان العلم أيضاً هو الكلمة الأخيرة في البيان: «لا نفعل ذلك لأجلنا.. نفعل ذلك من أجل العلم»، ما يعني أن المبرر الأول هو عدم ملائمة التعليقات لمحتوى المجلة الذي يركز على العلوم والتقنية.

ورأى البيان أن التعقيبات غير الملائمة ومحاولات التصيد وبرامج التطفل تضرّ بقدرة المجلة على أداء رسالتها في تعزيز النقاش الحيوي والفكري ونشر العلم، كما أشار البيان إلى أن تأثر القراء بالتعليقات الأخرى يُسهِم في تكوين الرأي العام، الذي يشكل السياسة العامة، وهذه الأخيرة تُحدد أي الأبحاث ستحظى بالدعم المالي، وهو ما قد ينتهي بالحيلولة دون إنجاز بعض البحوث العلمية المهمة بسبب ضغوط سياسية.

واعتبرت لاباري أن الحقائق العلمية تختلف عن الموضوعات العادية التي يختلف بشأنها الأشخاص في وسائل الإعلام: «الحقيقة العلمية هي شيء آخر غير ما يتجادل حوله شخصان على شاشات التلفزيون»، وتابعت أن «أقسام التعقيبات في مواقع الإنترنت تعكس بشكل غريب ما وصفته بثقافة وسائل الإعلام المنتشرة، وهو ما يُسهم في تقويض أسس المذهب العلمي تحت مظلة القصص المنشورة في (بوبيلار ساينس)، وهو موقع مكرّس في الأصل لنصرة العلم».

وأشار بيان المجلة إلى دراسات علمية استنتجت تأثر القراء باللهجة المستخدمة في تعليقات الآخرين، كما يؤثر في استيعابهم لمحتوى المواد المنشورة.

لكن هذا لا يعني بالطبع أن جميع مواقع الصحف أو المواقع المتخصصة ينبغي أن تتبنى الخيار ذاته الذي اتخذته «بوبيلار ساينس»، بل لاتزال تواصل البحث عن صيغٍ جديدةٍ تحافظ على تفاعل القراء، وتُقصي التعليقات المسيئة، والكلمات البذيئة، والآراء التي تحمل صبغة التمييز العرقي والجنسي، وكذلك محاولات الترويج التجاري لمنتجات بعينها. ومن بينها، صحيفة «ذا نيويورك تايمز» الأميركية التي تشترط على القراء التسجيل في الموقع بالاسم والبريد الإلكتروني، مع اختيار اسم يظهر في جميع مشاركاتهم عبر الموقع، ما يضمن قبول القارئ للشروط والأحكام المحددة، كما تعتمد الصحيفة على نظام لمراجعة التعليقات قبل النشر، فيقرر المحرر المسؤول ما إذا كانت ستُنشر أم تُرفض خلال 24 ساعة، وتتيح للقراء الاستفسار عن تعليقاتهم التي يتأخر نشرها، إضافة إلى إمكانية إبلاغ القرّاء عن التعليقات المسيئة.

وتُعفي الصحيفة الأميركية من تسميهم «القرّاء الموثقين» من عملية المراجعة تلك، وتنشر تعقيباتهم مباشرةً، كما تختار مجموعات من التعليقات الجيدة التي تعكس آراء متنوّعة، أو كتبها أشخاص على صلة مباشرة بموضوع المقالات لإبرازها ونشرها ضمن المقال، وحينها فقط يكون للصحيفة الحق في تصويب الأخطاء الإملائية والنحوية وعلامات الترقيم.

وتحظر بعض المواقع الإخبارية التعليقات مجهولة المصدر، من بينها مواقع مؤسسة «هافينغتون بوست» التي أعلنت ذلك في أغسطس الماضي، وعبّرت حينها رئيسة تحرير الموقع، أريانا هافينغتون، عن رأيها بأن حرية التعبير تخص أولئك الأشخاص الذين يدافعون بوضوح عما يقولون، ولا يتخفون وراء أسماء مستعارة. وأخيراً، كشف موقع «يوتيوب» لنشر مقاطع الفيديو عن سياسة جديدة للتعليقات، منحت لناشري الفيديو وأصحاب القنوات مزيداً من التحكم في التعليقات التي تتناول ما ينشرونه، بحيث يمكنهم حظر كلمات معينة من الظهور، أو مستخدمين آخرين من التعليق لديهم.

وسيُبرز نظام التعليق الجديد في «يوتيوب» لكل مستخدم التعليقات التي كتبها أصدقاؤه ضمن الشبكة الاجتماعية «غوغل بلس»، وكذلك تعليقات ناشر الفيديو وبعض المستخدمين ذوي الشعبية في البداية، ثم بقية التعليقات، ويأتي ذلك ضمن سعي «غوغل» إلى حث المستخدمين على التعليق بالاسم ذاته ضمن خدماتها المختلفة، إضافة للإبقاء على تقييم التعليقات سلباً وإيجاباً.

وربما ما يمكن الاتفاق عليه، أن بعض تعقيبات القراء تُثري النقاش ومحتوى المقالات المنشورة بالفعل وتمثل امتداداً لها، والبعض الآخر يصبح نوعاً من الضجيج والجدال بلا طائل لدرجة قد يضرّ معها بالمحتوى الأصلي، مع الأخذ في الحسبان أن المحتوى الجيد غالباً ما يجلب تعقيبات جيدة.

 

تويتر