دراسات تشير إلى ارتباطات وثيقة بين اللغة والحالة الذهنية والسلوك

مواقع الإعلام الاجتماعي تفتح مجالاً أوسع لتحليل اللغة

صورة

تكشف الكلمات التي يستخدمها الأشخاص في الحديث والكتابة عن جانب ليس بالهين من حالتيهم النفسية والاجتماعية، وسماتهم الشخصية، وسلوكياتهم. وفي السنوات الأخيرة انتقل تحليل اللغة إلى مستوى أكثر تقدماً مع نشأة مواقع الإعلام الاجتماعي وانتشارها.

وحالياً، تراجعت كثيراً الحاجة إلى البحث عن عينات من الكتابة ودفاتر اليوميات، إذ تمتلئ الإنترنت بتدوينات وتغريدات، ومنشورات في «تمبلر» وصور في «إنستغرام»، وغيرها من المواقع، وجميعها تُيسر للباحثين الاقتراب من اللغة المستخدمة، على مستوى واسع لم يتوافر سابقاً.

 

دراسات بحثية

قبل ما يزيد على 20 عاماً، وتحديداً في عام 1993، قدم أستاذ علم النفس في «جامعة تكساس» الأميركية، الدكتور جيمس بينيبكر، برنامجاً للكمبيوتر يبحث في الكلمات المستخدمة، ومعدل تكرارها، والسياق التي وردت فيه، ويخلص من ذلك إلى تحليل للحالة النفسية وجوانب مختلفة من الشخصية، ويحمل البرنامج اسم «الاستقصاء اللغوي وعدّ الكلمات» Linguistic Inquiry and Word Count أو «L.I.W.C».

واعتمدت الكثير من الدراسات على البرنامج، وأشارت إلى ارتباطات وثيقة بين اللغة والحالة الذهنية والسلوك.

وكتب بينيبكر وزميلته سيندي تشون: «تعكس الكلمات التي نستخدمها في اللغة الطبيعية أفكارنا ومشاعرنا بطرقٍ غير متوقعة غالباً». وقدم بينيبكر أخيراً أداة باسم «أنالايز ووردس» ما يعني «تحليل الكلمات» عبر موقع analyzewords.com، ويكشف عن بعض السمات الشخصية من خلال تحليل الكلمات التي يستخدمها الشخص في كتابة تغريداته في «تويتر». ومع الإمكانات الكبيرة للاستعانة بمواقع الإعلام الاجتماعي في تحليل اللغة، إلا أنها لا تسلم من الصعوبات، واعتبر بينيبكر أن أكبر مشكلات هذا النهج تكمن في تأسيس العلاقة السببية، بحسب ما كتبت ماريا كونيكوفا في مقال في مجلة «نيويوركر» الأميركية بعنوان: «ما الذي تقوله عنك تغريداتك».

 

أمراض القلب

وفي فبراير الماضي، نُشرت دراسة أعدها فريق من الباحثين في «جامعة بنسلفانيا»، وحلل فيها عالم النفس، يوهانس أيكستت، وزملاؤه، 826 مليون تغريدة في «تويتر»، كتبها أشخاص ينتمون إلى 1400 مقاطعة أميركية، تضم نحو 90% من تعداد الولايات المتحدة.

واستخدم فريق البحث قوائم من الكلمات، أعد بعضها وطور بعضها الآخر بينيبكر. وترتبط الكلمات بالغضب، والقلق، والمشاركة الاجتماعية، والمشاعر الإيجابية والسلبية. وأعطى الباحثون لكل مقاطعة سمات عاطفية، وبعدها طرحوا سؤالاً بسيطاً يتعلق بإمكانية أن تُساعد هذه السمات في تحديد المقاطعات التي يُرجح فيها ارتفاع معدل الوفيات بسبب أمراض القلب.

وبالفعل، كانت هذه السمات مؤشراً إلى معدلات انتشار أمراض القلب. وشهدت المقاطعات ـ التي تضمنت تغريدات سكانها كلمات تتصل بالخصومة والعدائية والكراهية والإرهاق، مثل «أحمق» و«غيور» و«ضَجِر» ـ معدلات أعلى بشكل ملحوظ من الوفيات الناجمة عن تصلب الشرايين، ومن ذلك النوبات القلبية والسكتات. وعلى النقيض من ذلك، كانت أمراض القلب أقل شيوعاً في المناطق التي عكست تغريدات سكانها مشاعر اكثر إيجابية ومشاركة. وأثبت نموذج التنبؤ المعتمد على «تويتر» تفوق النماذج الأخرى المستندة إلى العوامل الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية والمخاطر الصحية.

وعلى الرغم مما هو معروف منذ فترة طويلة عن إسهام الإجهاد والغضب والوحدة في زيادة مخاطر الإصابة بالنوبات القلبية وغيرها من أمراض القلب المسببة للوفاة، فإن ذلك لا يُقلل من غرابة نتائج الدراسة، مع تحذير الباحثين من أن «الأشخاص الذين يكتبون التغريدات ليس هم من يموتون»، الأمر الذي يعني أن تغريدات الشخص لا تتنبأ بخطر تعرضه لأمراض القلب، بل إن التغريدات السلبية الجماعية في أجزاء معينة من البلاد تتوافق مع معدلات مرتفعة من الوفيات فيها.

وترجع غرابة نتائج الدراسة إلى غلبة فئة الشباب على مستخدمي «تويتر»، كما أنهم أصغر سناً من الأشخاص الذين يتوفون بسبب أمراض القلب؛ فمن ناحية، بحسب أحدث إحصاءات «مركز بيو للأبحاث»، يستخدم نحو 19% من البالغين الأميركيين موقع «تويتر»، وجاوزت نسبة 22% منهم سن الـ50.

 

نظريات وتكهنات

ويُفسر الباحثون نتائج الدراسة بفكرة تقول إن لغة «تويتر» قد تكون نافذة على الآثار المجمعة والقوية لسياق المجتمع. ويُشيرون إلى دراسات أخرى أظهرت أن الحقائق العامة في أحد المجتمعات مثل «التماسك الاجتماعي ورأس المال الاجتماعي» لها عواقبها على صحة الأفراد. وعموماً يقل المستوى الصحي للأشخاص الذين يعيشون في مجتمعات أفقر وأكثر تجزؤاً، مُقارنةً بمن يعيشون في مجتمعات أكثر ثراءً واتحاداً. وقال أيكستت إن التحليل الفرعي يُظهر أن جانباً كبيراً من قوة «تويتر» يرجع إلى الجوانب الاجتماعية والاقتصادية. ويعني ذلك أن التغريدات الغاضبة والسلبية التي يكتبها أحد الشباب تعكس شعوره بالضغوط نتيجة البيئة التي يحيا فيها، وهي البيئة نفسها التي تُؤثر صحياً بشكلٍ سلبي في أفراد آخرين أكبر سناً يعيشون في المجتمع نفسه. لكن يبقى ذلك كله في إطار النظريات والتكهنات، إذ لم تشرح الدراسة تباين مستويات الشعور بالضغط بين مقاطعة وأخرى، والارتباط بين مشاعر مُستخدمي «تويتر» والحالة الصحية للأشخاص الأكبر سناً. وحث بينيبكر، الذي لم يُشارك في الدراسة ولا يرتبط بأيٍ من مُعديها، على توخي الحذر في التوصل إلى الاستنتاجات السببية، معتبراً أن ربط تغريدات عدائية كتبها أشخاص في الـ18 من العمر بالموت المفاجئ لأجدادهم، تجاوز كبير إلى حد ما للمنطق. وتُعد العلاقة التي توصلت إليها الدراسة كبيرة من الناحية الإحصائية ونوعاً من المصادفة في الوقت نفسه. ومع ذلك، فإن هذا الازدواج لا يُقلل من قيمة الدراسة. وقال بينيبكر: «حتى إذا ما انتهت إلى عدم وجود ارتباط حقيقي في الواقع، فإنه يُجبرك على التفكير: ما السببية؟». وتحديداً يُثير تحليل اللغة على نطاق واسع الاهتمام لما يطرحه من أسئلة، وليس لما يُقدمه من إجابات. ويعمل فريق أيكستت على تعزيز نتائج الدراسة، ويتعاون في ذلك مع مجموعة من الباحثين تُجري دراسة طويلة الأمد تتعلق بالأوبئة. وتكمن فكرة التعاون في متابعة المجتمعات والأفراد مع مُضي الوقت، بدلاً من النظر إلى لقطة منفردة. ومثلت التغريدات المستخدمة في دراسة أمراض القلب 10% من عينة عشوائية أتاحها «تويتر» للباحثين بين يونيو 2009 ومارس 2010، ويتطلب البحث المثالي تتبع المستخدمين لأشهر عدة إن لم يكن سنوات. ويتطلع أيكستت حالياً إلى دراسة الحسابات الشخصية في موقع «فيس بوك»، قائلاً إنه على الرغم من تغطية بيانات «تويتر» لشبكة واسعة، فإنها ليست معبرة وعميقة وفردية كما هي حال بيانات «فيس بوك»، ما يعني أن البيانات الضخمة لا تتساوى جميعاً.

ويُمثل بحث أيكستت نموذجاً لعلم النفس الحالي الذي يستعين بالبيانات الضخمة، وإن كان لايزال في مرحلة التطور.

 

تويتر