يتم جمعها عبر أجهزة استشعار في أعمدة الإنارة وصناديق القمامة ولوحات الإعلانات

البيانات الضخمة تحكم مدن المستقبل

صورة

تشهد الإدارة الحديثة للمدن تطوراً لا يتعلق باستخدام أجهزة متقدمة أو الاستعانة بالـ«روبوتات»، بقدر ما يُركز على الاستفادة من قدرٍ هائل من البيانات تُجمع بوساطة أجهزة الاستشعار في أعمدة الإنارة، وصناديق القمامة، ولوحات الإعلانات، وغيرها، إضافة إلى إسهام المواطنين أنفسهم عبر هواتفهم المحمولة في عمليات الرصد، ما يُوفر صورة تفصيلية غير مسبوقة عن مختلف جوانب الحياة في المدينة.

 

خير وشر

وبحسب تقرير نشره موقع «بي بي سي»، فإنه يُمكن أن تُستغل البيانات المفتوحة، لأغراض إيجابية وأخرى سلبية. وقدم الطالب، برام فريتز، قبل سنوات قليلة في ملتقى للبرمجة، في العاصمة الهولندية أمستردام، تصوراً لتطبيق يعرف اللصوص بأفضل مكان للسرقة، ومن المفترض أن يستعين التطبيق بالبيانات المُتوافرة علناً عن معدلات الدخول والجريمة والمشكلات المعلنة في كل منطقة. ومن خلال ذلك، قد يقترح أن المكان الأفضل للسرقة يتميز بمعدل مرتفع لدخول السكان، ومعدلات أقل للجريمة، وأعمدة إنارة مكسورة.

وفاز التطبيق، الذي حمل اسم «Makkie Klauwe» الذي يعني «القطاف السهل»، بالجائزة الأولى في فئة «الأمن»، وسعى برام من خلاله إلى «إثارة النقاش حول دور البيانات المفتوحة في مجتمعنا».

وعلى الرغم من عدم تنفيذ التطبيق، إلا أنه يُقدم دليلاً إضافياً على إمكانية استخدام البيانات للخير والشر على حدٍ سواء.

وفي مثال على استخدام البيانات في أغراض إيجابية، فخلال بحث قسم البيئة في العاصمة النرويجية أوسلو، عن الأماكن التي يبني بها أرصفة جديدة وتلك التي يُقلل بها سرعات المرور، استعان بمساعدة الأطفال من خلال تطبيق للهواتف المحمولة.

ووفقاً لإحصاءات المفوضية الأوروبية، يُقوم الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 12 عاماً، بأكبر عدد من الرحلات على الأقدام، مُقارنة بأي فئة عمرية أخرى، ومن ثم تعاون مجلس مدينة أوسلو مع شركة «كابغيميني» Capgemini المتخصصة في التكنولوجيا لتطوير تطبيق يسمح للأطفال بالإبلاغ عما يرونه من مخاطر في الشوارع خلال تنقلاتهم إلى المدرسة. وصُمم التطبيق على شكل لعبة يُمثل فيها الطفل دور المتعامل السري للإبلاغ عن كل ما يُثير ريبته.

 

إنترنت الأشياء

ويتجه الكثير من المدن لجمع بيانات من مصادر غير تقليدية، بفضل إمكانية وضع رقاقات المعالجة وأجهزة الاستشعار في جميع الأشياء تقريباً، من الجسور إلى مجارير الصرف الصحي، ومن أعمدة الإنارة إلى صناديق المهملات في الشوارع. ويُمثل هذا جزءاً مما يُطلق عليه «إنترنت الأشياء». وتتوقع شركة «غارتنر» للأبحاث وجود ما يزيد على 26.5 مليار جهاز متصل بالإنترنت بحلول عام 2020، ما يرفع حجم الصناعة إلى 1.9 تريليون دولار (نحو سبعة تريليونات درهم).

ويُمكن أن يُسهِم هذا القدر الهائل من البيانات في تحسين سبل إدارة المدن، إذ تُقدر مدينة فيلادلفيا الأميركية توفيرها بمليون دولار سنوياً، بفضل وضع أجهزة استشعار في صناديق المهملات في الشوارع، وبدلاً من الحاجة إلى ثلاث دوريات يومية لجمع القمامة، تتحرك الورديات فقط في حال إشارة أجهزة الاستشعار إلى امتلاء الصناديق، وفضلاً عن التوفير المالي فقد أسهم تقليل الشاحنات في تخفيف الازدحام والتلوث.

وفي نموذج آخر، يسعى مجلس مدينة «جلاسكو» في أسكتلندا إلى تحسين الإنارة في الشوارع من خلال استخدام مصابيح «ليد» التي تتميز بكفاءة استهلاكها للطاقة، ما سيُثمر عن خفض بنسبة 50% في واحدة من أكثر المجالات كلفة للمدينة. وتتطلع «جلاسكو» إلى تطوير المصابيح لتزيد من درجة سطوعها حال ارتفاع مستويات الضوضاء التي تُشير إلى وجود اضطراب في المنطقة.

ومن المقرر دمج هذا المشروع التجريبي مع مركز عمليات المدينة الذي يُتابع ما تلتقطه كاميرات الدوائر التلفزيونية المُغلقة المُنتشرة في مختلف أنحاء «جلاسكو»، ما يُتيح للموظفين الاطلاع عن قرب على أي مشكلة طارئة.

 

مدن ذكية

إلا أن الآراء تختلف بشأن التجربة؛ ففي حين يراها البعض حلاً جيداً للجرائم، ينظر إليها آخرون ككابوس يُهدد الخصوصية.

وفي ما يتعلق بالمواطنين فسهولة حصولهم على البيانات يُمكن أن تفيدهم بأكثر من طريقة، إذ يُمكن لسكان مدينة «سانتاندير» الإسبانية، مثلاً، الاطلاع على أحدث المعلومات حول إغلاق الطرق وتوافر الأماكن في مواقف السيارات، وتأخير مواعيد الحافلات على اللافتات المنتشرة في الشوارع.

ووفرت العاصمة البريطانية لندن 500 قاعدة بيانات على موقع إنترنت متاح للجمهور، تتضمن معلومات قطاعات مختلفة منها تلوث الهواء، وإحصاءات عن معدلات الجريمة، وحالة الطقس، ومُؤشر السعادة. ويُتيح ذلك أموراً عدة من بينها مثلاً إمكانية تتبع موقع كل حافلة في الشارع في الوقت الحقيقي.

وتعتقد المُحللة في شركة «غارتنر» للأبحاث، بيتينا ترانزــ ريان، أن المدن الأذكى هي تلك التي تنظر إلى ثورة البيانات كمحادثة في اتجاهين، أي يتبادلها طرفان.

وفي إشارة إلى ما يُطلق عليه خدمات «انقر وأصلح» التي تُتيح للمواطنين إمكانية الإبلاغ عن المشكلات، قالت ترانزــ ريان إن التقاط الشخص لصورة وإرسالها إلى الموقع أو البوابة، وانتظار النتيجة، تجعل المواطنين جزءاً من المجتمع.

وتستعين مدينتا فيلادلفيا وسولت ليك سيتي الأميركيتان بمنصة «تكستزن» Textizen التي تتسم ببساطتها، وتُوفر للمواطنين الفرصة لإبداء آرائهم في العديد من قضايا ومشكلات المدينة. وتنشر الأسئلة محطات الحافلات وغيرها من مراكز التجمع الرئيسة، وتتنوع بين أسئلة عامة مثل: ما الذي تحبه في مدينتك؟ إلى أخرى أكثر تخصيصاً مثل ما إذا كان الناس سيستخدمون خطاً جديداً للسكك الحديدية حال بنائه. ويُمكن للمواطنين الرد من خلال رسالة نصية من هواتفهم المحمولة.

ويعتقد الدكتور أندرو هدسون-سميث، الذي صمم لوحة إدارة بيانات مدينة لندن، أن المدن الأذكى هي تلك التي تُشرك مواطنيها في عملية جمع البيانات، مشيراً إلى التوجه حالياً بعيداً عن البيانات المُنظمة التي تخضع لسيطرة الحكومة، إلى جمع البيانات عبر المشاركة الجماعية بوساطة الهواتف الذكية.

ويعتقد بعض الخبراء أنه في المستقبل لن تكون المدن بحاجة إلى عمال تقليديين، وبدلاً من ذلك ستعج بالمبرمجين الذين يُمكنهم تطوير خوارزميات للتوصل إلى أنماط إحصائية في البيانات.

وقال عالم البيانات، البروفيسور نيلو كريستياني: «يوجد الكثير من الرياضيات وراء المدن»، معتبراً أن البيانات الضخمة أصبحت الطعام الذي يُغذي الذكاء الاصطناعي في عالم اليوم.

 

انتهاك الخصوصية

لكن هذا الطعام، بتعبير كريستياني، قد يوجد وحشاً جديداً، إذ يشعر عالم البيانات بالقلق حيال مسألة الخصوصية، وقال: «يُمكن استخدام جميع البيانات التي تُولدها كاميرات المرور في تحسين تدفق حركة المرور، لكنها يُمكن أن تُستغل أيضاً في استخلاص بيانات حول الأماكن التي يصف فيها الناس سياراتهم، حيث لا ينبغي لهم القيام بذلك». وأضاف كريستياني: «قد يكون لوجود خرائط مُباشرة للأشخاص الذين يسيرون في مدينة لندن أغراض متنوعة، لكن هل سألهم أي شخص ما إذا كانوا يرغبون في الإسهام في تلك البيانات؟».

ويُقر هدسون-سميث بأن المرحلة المُقبلة ستشهد الانتقال من تتبع الحافلات في شوارع لندن إلى تتبع الأشخاص، ما سيُوفر القدرة على «معرفة مكان كل شخص». وتعد مثل هذه الخطوة جزءاً من عملية التعلم التي ستجعل من المدن أكثر كفاءة وأمناً، وفي الوقت نفسه يعترف هدسون-سميث بأن هذا العالم الجديد المُخيف يتطلب تحولاً ثقافياً جذرياً. وقال إنه بينما نُشارك بياناتنا حالياً بشكل عشوائي، ففي غضون السنوات القليلة المُقبلة ستدفع الشركات مُقابل الحصول على البيانات.

 

تويتر