جولة مختصرة لعلماء نفس في عقل الزعيم الليبي

القـذافي.. غامض ومهووس بجنون العظمة

صورة

يعتقد بعض المحللين السياسيين أنه من السهل تحليل الحالة الذهنية للزعيم الليبي معمر القذافي، لكن من الصعب معرفة ما يفكر فيه أو ينوي القيام به.

ويقول علماء نفس وخبراء صحة عقلية إنهم كثيراً ما يطلب منهم تحليل بعض الحالات العقلية «عن بعد»، وهو التحليل الذي من شأنه أن يساعد على معرفة الوضع العقلي الراهن للشخصية المراد تحليلها واتخاذ القرار المناسب بشأنها.

ويقول أستاذ علم النفس في كلية سانت جورج بجامعة لندن، نيجل إيستمان، «عندما يتصرف شخص خارج نطاق مربع تفكير الشخص العادي بشكل قد يهدد أو يؤذي الآخرين، فإننا نجد أنه من الضروري البحث عن وسيلة لفهم ذلك السلوك».

يعتقد كثير من الناس أن سلوك القذافي يتجاوز في بعض الاحيان السلوك العادي، حيث قضى على آلاف الليبيين خلال محاولته سحق الثورة الشعبية، واتهم الثوار بأنهم تناولوا حليبا وقهوة نسكافيه ملوثة بحبوب الهلوسة وضعتها لهم وكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي إيه)، أيضاً اختياره حرساً من النساء ونصبه خيمته البدوية أينما ذهب في زيارة لدولة من الدول، وسرعته في إعدام خصومه.

بيد أن بعض المعلقين في مقابلات تلفزيونية وصفوه بأنه رجل تمتع بصفاء الذهن والهدوء، ويرد الخبير في الاضطرابات الشخصية، كينغزلي نورتون، على ان الهدوء الظاهري قد يكون في بعض الاحيان مؤشراً على ان الشخص متأكد من مصيره المحتوم، ويعتقد أن الاشخاص الواقعين تحت ضغوط شديدة يصبحون هادئين ظاهرياً، لانهم يشعرون في داخلهم بأنهم مؤمنون دينياً، أو ان لديهم خطة بديلة أو مخرجاً إلى ملاذ آمن، أو أنهم سيضعون حداً لحياتهم عن طريق الانتحار.

ضغينة وحقد

كشفت وثائق قديمة أفرجت عنها الحكومة الألمانية حديثاً أن القذافي طلب من حكومة المستشار السابق هيلموت كول في 27 مايو 1980 طرد المعارضين الليبيين الذين يعيشون في الاراضي الالمانية، وجاء ذلك الطلب عبر السفير الالماني في طرابلس، غونتر هيلد، وأقسم القذافي انه في حالة عدم الاستجابة لرغبته سيتخذ إجراءات ضد 2500 ألماني يعملون في ليبيا، من بينهم مجموعة صغيرة حبيسة في سجونه، وتساءل القذافي في رسالته عما اذا كانت الحكومة الالمانية تريد التعاون مع «من خانوا الشعب الليبي»، وذهب الى أبعد من ذلك عندما عرض أنه مستعد للتخلي عن دعم الجيش الاحمر الايرلندي، شريطة ان يسمح له كول بتصفية «مجموعة صغيرة نسبياً من الاشخاص» الذين يعيشون على التراب الالماني، ويعكس هذا باختصار شديد جدا عقلية القذافي، رجل قلبه مملوء بالضغينة والحقد، لا يتورع أبدا عن إراقة الدماء، ولا يتردد في ارسال التهديدات المميتة، وليس له احساس مطلقاً بوجود خارج عقله المسكون بجنون العظمة. ويتساءل البعض: ماذا يخطط هذا الرجل عديم الرحمة داخل مجمعه العسكري والسكني في طرابلس؟ إنه ليس بالرجل «الانهزامي» سريع الاستسلام، كما يصفه بيتر ماندلسون صديق ابنه سيف الإسلام.

لم تردعه الضربة الجوية التي وجهها له الرئيس الاميركي الأسبق، رونالد ريغان العام 1986 بقصد اغتياله، فقد عاد القذافي ببساطة الى عمله السابق في دعم الارهاب العالمي، والجمهوريين الايرلنديين، والالمان واليساريين اليابانيين الإرهابيين، وعلى هامش هذه الصورة خلق فوضى عارمة في افريقيا جنوب الصحراء، وعقب «حادثة لوكربي» في ،1988 تحدى العقوبات الدولية التي هدفت الى ردعه، وبعد عام من ذلك تمكن أعوانه من نسف طائرة تابعة لشركة «يوتا» فوق النيجر، خلال رحلتها من تشاد الى باريس، ما أدى إلى مقتل 170 راكبا انتقاما منه على الهزائم التي تكبدها مرتزقته في تشاد.

فرق تسد

الآن استطاع القذافي السيطرة على دولته من خلال نظريته المثيرة للسخرية «النظرية العالمية الثالثة»، المضمنة في «الكتاب الاخضر»، التي تقضي، كما يدعي، بانتقال السلطة الى أصغر وحدة في المجتمع الليبي، لكنها نوع متقدم من نظرية «فرّق تسد». كما ان الشكوك التي تساور القذافي من الجيش النظامي اضطرته الى تشكيل قوات أمن موازية يقودها ابناؤه وأقرباؤه الآخرون. ولكي يرسخ نفسه اكثر في السيطرة على مقاليد القوى في البلاد لقب نفسه بإمام المسلمين، وعميد الحكام العرب، وملك ملوك افريقيا.

التنافس لخلافة القذافي على «عرش ليبيا» أصبح الآن حلما بعيد المنال لأبنائه، وأصبحوا يناورون خلف والدهم المتجهم، لأنه اذا ما ذهب فهم ذاهبون أيضاً. ولكي تنجح الجهود الرامية لقبول القذافي بالخروج من ليبيا ينبغي إقناع من حوله بالتخلي عنه لكي يصبح معزولاً، ويحاول القذافي تحصين نفسه ضد هذه المحاولات بإحاطة نفسه بالأشخاص الاكثر ولاءً، والذين يفقدون كل شيء عند فقده.

ويتفق في هذا الرأي السفير الليبي السابق في الجامعة العربية، عبدالمنعم الهوني، ويقول«هؤلاء الأشخاص مرتبطون به ارتباطاً قوياً، ويعيشون ويموتون معه وبعضهم يداه ملطختان بالدماء وسيصبح على قائمة المطلوبين».

في محاولة منها لإثارة الشكوك والانقسام وسط الدوائر الداخلية تعمدت الحكومات الغربية نشر معلومات تبدو في ظاهرها كأنها تسريبات استخبارية مفادها بأن القذافي وبعض من يوالونه بدأوا في اختيار مجموعة من الدول التي من المحتمل ان تقبلهم لاجئين، على رأسها روسيا البيضاء وفنزويلا وزمبابوي.

ويتشكك أكثر من خبير في أن يغادر هذا الرجل الذي عركته الحياة بلاده هكذا بسهولة في شفق المغيب، حتى ولو استطاع هو وعائلته تكديس الاموال الطائلة استعداداً لمثل هذه المفاجآت. ويوافق على ذلك الخبير في علم النفس السياسي، البروفيسور جيرولد بوست، الذي استشارته وكالة الاستخبارات الاميركية في الكيفية التي ينظر بها الرئيسان السابقان، (الروماني) سلوبودان ميلوسوفيتش و(العراقي) صدام حسين إلى العالم وإلى أعدائهما. ويقول بوست انه بالنسبة لهؤلاء «النرجسيين» فإن التقدم في السن قلما يضطرهم للتقاعد والرضوخ، وعلى العكس من ذلك، فكلما تقدموا في السن ساروا قدما في مثل هذه الانشطة التي تعطي حياتهم الفارغة معنى، والشيء نفسه ينطبق على الزعيم النازي أدولف هتلر والزعيم السوفييتي جوزيف ستالين.

بين الجنون والمعارضة

السفير الليبي المستقيل في واشنطن، علي عجالي، «إن العقيد فقد كلياً الإحساس بالواقعية، عندما صار يصدق هتافات المتملقين ويعتقدها هتافات شعبية، اذ يتضح من هذا ان القذافي مهووس بجنون العظمة».

ويضيف عجالي «دعونا نأخذ إحدى عباراته: لقد قدت ثورة تاريخية حققت العزة والشرف لليبيين، ان ليبيا ستقود كل العالم إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، لا احد يستطيع ان يوقف هذا الزحف التاريخي». ويتضح جنون العظمة أيضا خلال حديثه المتلفز الشهير الذي عزا فيه السبب في الاحتجاجات إلى «القاعدة»، أو أن الـ«سي آي ايه» وضعت حبوب الهلوسة في قهوة نسكافيه لليبيين، ويبدو من خلال هذا الاعتقاد ان سكان بنغازي خرجوا للشارع محتجين، لانهم «سكارى» لأنه لا يوجد احد «عاقل» يستطيع معارضة القذافي حسب زعمه، ومن يفعل ليس سوى «جرذ» أو«صرصور» يساعد «الشيطان».

ومهما يكن ما أصابه من جنون العظمة، أو الاوهام، فإن القذافي لن يسلك الطريق نفسه الذي سلكه هتلر للخروج من موقفه الحالي، فالانتحار ليس جزءاً من تكوينه. وفي الوقت الذي يصرّ فيه بجنون على الوقوف أمام القوة الجوية للتحالف، هدد مبدئياً بتحويل عقود النفط الليبي إلى الصين والهند بدلاً عن الغرب، ثم وصف قادة بريطانيا وفرنسا بأنهم «إمبرياليون» و«فاشيون»، بينما أرسل رسالة إلى الرئيس الاميركي باراك أوباما يوبخه فيها، حيث استهل القذافي خطابه لأوباما بعبارة «ابني العزيز». وفي خضم هذه الأحداث يحذر جهاز الاستخبارات البريطاني «إم 15» من احتمال وجود انشطة مريبة للقذافي للقيام بتفجيرات في بريطانيا وفرنسا، إذ إن هذا الفهد فهد حتى ولو غير شكل جلده.

ويبدو ان القذافي يسعى منذ ان وصل الى السلطة الى شق صف المجتمع الليبي، اذ تجد عناصر المعارضة صعوبة شديدة في التوحد والتماسك بسبب لا مركزية السلطة في البلاد. وتتكون المعارضة من مجموعات متنافرة من الأطباء والمحامين والأكاديميين ورجال الأعمال الذين سئموا ونفروا من حكم القذافي وأبنائه الجشعين. وتتكون قوات الثوار من الوطنيين المتحمسين والجنود المتمردين على القذافي. ويقول المتشائمون إن الكثير من الشباب المقاتلين في صفوف الثوار كانوا قد ذهبوا من قبل لمحاربة الأميركيين والقوات الغربية في العراق، وبعضهم احتل مناصب كبيرة في تنظيم القاعدة، وقد استفاد القذافي كثيراً من مثل هذه الدعاية. ووفقاً للجهادي الليبي السابق، نورمان بنوتمان (حفيد وزير الدفاع السابق في عهد الملك الليبي ادريس السنوسي)، فإن العديد من هؤلاء الشباب ذهب إلى العراق لصقل خبراته في القتال والعودة لمقارعة القذافي، لكنه يؤكد أن معظم الليبيين هم عبارة عن مسلمين وسطيين وصوفيين، ويعتقد أيضا ان أي عناصر متطرفة ستلعب دوراً هامشياً في أي نظام جديد في ليبيا، وكما هي الحال في مصر.

تويتر