مفكر ثمانيني حرّض الشعوب على الانتفاضة ضدّ الأنظمة القمعية

شارب.. ملهم الثورات السلمية في العالم

البورميون أول من استفاد من أفكار شارب في التظاهر السلمي. غيتي ــ أرشيفية

في بواكير عام ،2008 وقبل فترة طويلة من اندلاع الثورة التونسية، أو حتى قبل أن يمتلئ ميدان التحرير (في مصر) بالثوار، حذرت الحكومة الإيرانية مواطنيها من أن مجموعة «من المتآمرين» الأجانب يعدون العدة للإطاحة بالحكومة الإيرانية، وحددت طهران بعض الأسماء المعروفة التي ستلعب دوراً في «عمليات تخريبية»، ومن بين هؤلاء الأشخاص الملياردير والناشط السياسي المعروف جورج سوروس، والمترشح للرئاسة الأميركية في ذلك الوقت، السيناتور جون ماكين، والمستشار الرئاسي الأميركي السابق ورئيس مجلس العلاقات الخارجية، ريتشارد هاس. أما الشخص الذي وصفته إيران بأنه «رأس الشؤم»، الذي يقف وراء التسلل الأميركي إلى داخل الأراضي الإيرانية، فهو أكاديمي سابق في جامعة بوسطن غير معروف لمعظم دول العالم يسمى جين شارب، تدعي إيران انه عميل للاستخبارات الأميركية المركزية (سي.آي.إيه).

وليست هذه هي المرة الأولى التي يستجلب فيها شارب غضب «أحد الأنظمة العدائية» في العالم.

بعد ثلاث سنوات من التحذير الذي أطلقته إيران عاد شارب مرة أخرى إلى بؤرة الاهتمام، وقد بلغ عمره 83 عاماً. ويعتبر شارب احد أشهر المحرضين على الثورات السلمية في العالم ضد الأنظمة القمعية. وكان قبل 15 عاماً محرراً لصحيفة اخبارية تحدد المسارات الممكنة لمواجهة الدكتاتوريات حول العالم، بدءاً من أدغال بورما مروراً بالاتحاد السوفييتي السابق، وانتهاء برفوف مكتبة ابرز المناهضين لنظام الرئيس المصري السابق حسني مبارك. وبرز شارب محرضاً للثورات في العالم، انطلاقاً من مكتبه في ضاحية تابعة لمدينة بوسطن الاميركية، وتعرض معهد الابحاث الذي أسسه عام ،1983 وأطلق عليه اسم البرت اينشتاين إلى صعوبات مالية جمة قبل سنوات عديدة، ولم يكن يتوقع وهو في عقده التاسع ان يذكره العالم في السياق نفسه الذي يذكر فيه الزعيم الهندي المهاتما غاندي، والزعيم الاميركي الاسود مارتن لوثر كينغ، وحولته أفكاره العملية حول الثورات غير العنفوية إلى رمز وسط قادة الثورة المصرية، وآخرين مناهضين للدكتاتوريات في العالم.

بدايات

في تصريحات صحافية الأسبوع الماضي يقول شارب إن البعض قد يظن خطأ أن هذه الثورات قد جاءت بشكل مفاجئ، ورفض بشكل متواضع ان يكون له أي ضلع في الإطاحة بمبارك، إلا ان أحد الإيرانيين علق على أعمال شارب على الانترنت بأن «تلك الكتب قد حررت الملايين».

صانع الانقلابات المخملية

لم يكتفِ النظام الإيراني بوصف شارب بأنه جاسوس للاستخبارات الأميركية المركزية، بل ادعى أنه فرض نفوذه على 100 شخصية معارضة خضعت للمحاكمة عام .2009 ووفقاً لمدعين عامين إيرانيين، فإن الاحتجاجات المناهضة للحكومة «تم تخطيطها مسبقاً، وأنها تمضي وفقاً لجدول زمني للوصول إلى انقلاب مخملي»، وان 100 من ضمن 198 حادثة قد تم تنفيذها وفقاً لتعليمات شارب. وتعرض شارب للشجب من قبل الرئيس الفنزويلي، هوغو شافيز والطغمة الحاكمة في بورما، الأمر الذي اثار دهشته، إذ إنه يعيش في منزل متواضع لا يشبه مطلقاً منزل عميل في الاستخبارات الأميركية. وفقد معهد ألبرت اينشتاين الذي يديره مموله الرئيس منذ سنوات عدة، لينكمش الآن الى غرفتين فقط، ضمن منزل شارب المكون من ثلاث طوابق، ويعتمد على نذر يسير من المال. في سبتمبر الماضي كتبت وكالة « برس» للأنباء من القاهرة، بأن مجموعات المعارضة اجتمعت في منازل خاصة لمناقشة تنظيم عصيان مدني يهدف إلى إسقاط نظام مبارك، وتقول الوكالة إن قادة المعارضة استلهموا خطى الزعيم الهندي المهاتما غاندي، والزعيم الأميركي الأسود مارتن لوثر كينغ. وتضيف الوكالة ان المعارضة نزّلت كتباً ألفها الأكاديمي الأميركي جين شارب «وبعد خمسة أشهر من ذلك سقط نظام مبارك».

جين شارب.  أرشيفية

ولد شارب عام 1928 في أوهايو من أب قسيس، وكان في المدرسة الثانوية العليا حينما بدأ يقرأ عن معسكرات النازية، الأمر الذي أشعل فيه اهتماماً ظل يلازمه طوال حياته عن تصرفات الأنظمة الشمولية. ويستلهم خطاه من المهاتما غاندي، الذي حقق الاستقلال لبلاده عن بريطانيا عام ،1947 وجرب بنفسه من قبل العصيان المدني، عندما رفض ان يتجند في الحرب الكورية، وقضى بسبب ذلك تسعة أشهر في السجن.

بعد سنوات عديدة كباحث في جامعة هارفارد، وخلال تدريسه حلقات دراسية عن الثورات السلمية، قابل شارب ضابطاً في الجيش يتمتع بالذكاء، اسمه روبرت هيلفي، وهو أحد المحاربين القدماء في فيتنام، الذي عمل ملحقاً عسكرياً في السفارة الأميركية في بورما.

بعد سنوات من ذلك اللقاء، يتذكر هيلفي كيف أنه شكّ في البداية في أن يكون شارب يسارياً «يعج فصله الدراسي بالهيبيين ذوي الشعور الطويلة»، إلا انه وبعد حضوره إحدى حلقاته الدراسية أدرك هيلفي ان هذا الرجل «ليس له علاقة مطلقاً بالحركات اليسارية»، وإنما هو شخص ملتزم بدراسة الوسائل العملية غير العنيفة لتغيير الأنظمة.

ظل الرجلان على علاقة مع بعضهما بعضاً، وبعد سنوات من ذلك وجد هيلفي نفسه مرة اخرى في بورما لتنظيم اجتماع مع المناوئين للحكومة العسكرية الجديدة هناك، حيث أفصح لهم عن بعض أفكار شارب، ويقول«كنا في الأدغال نقرأ بعض عبارات شارب على ضوء الشموع».

في عام ،1992 سافر شارب الى تايلاند لمقابلة البورميين الديمقراطيين المنفيين هناك، واستطاع بمساعدة هيلفي ان يتسلل عبر الحدود الى داخل بورما ليحاضر أمام مجموعات العصابات داخل السجن.

خريطة الحرية

يتذكر شارب الأسبوع الماضي قائلاً «في تلك الرحلة قابلت احد الديمقراطيين البورميين المنفيين، الذي كان يحرر صحيفة يومية معارضة في تايلاند». ويضيف، «طلب مني هذا المعارض ان أكتب المزيد عن أفكاري، وبما أنني لا أعرف كثيرا عن بورما، فقد عبرت عن افكاري بصورة عامة»، ويقول شارب انه ظل يدرس الصراع غير العنفوي منذ العام ،1949 ولهذا فإن حجم العمل الذي قام به يعتبر عصارة دراساته وخلاصة تجاربه خلال سنوات عدة. وكانت النتيجة كتاباً بعنوان «من الدكتاتورية إلى الديمقراطية»، الذي يقع في 88 صفحة، ويحتوي على 198 فكرة مفيدة لمواجهة الدكتاتوريين من دون إراقة دماء. ويقول عن ذلك «إن سلطة الشعب أكبر من كونها كتلاً شعبية تخرج للشوارع، وعليهم ان يتعلموا كيف يفعلون ذلك».

الكتاب عبارة عن «صندوق معدات» بالنسبة للمتظاهر، يوضح تكتيكات عن كيفية تنظيم إضرابات ومقاطعات وخيارات أقل تشدداً، مثل الثورة غير العنفوية، وهي فكرة تم استلافها من الفيلسوف الإغريقي أرسطو، ويدعو فيها زوجات السياسيين إلى عدم النوم مع أزواجهن ما لم يعدلوا عن بعض أفكارهم السياسية. وكتب شارب في هذا الكتاب «إن الشعب اذا ما استطاع أن يفهم ما تتطلبه حريته، فسيتمكن من رسم خريطة مسار عمله، الذي سيفضي به إلى الحرية المنشودة».

وقد تتضمن تلك الأفعال «الاحتجاج والقدرة على الإقناع»، التي تراوح بين استخدام الشعارات البراقة والاعلام التي تشير الى تبني الثوار لوناً رمزياً معيناً يمثل الرغبة في التغيير».

ويمكن للثوار أن ينظموا انتخابات صورية، من أجل ان يبرهنوا للشعب أن الدكتاتور لا يتمتع بشعبية 100٪، كما يدعي، ويمكن أيضاً تحويل النعوش إلى مظاهر احتجاج، ويمكن ان تكون الشعارات المكتوبة على الجدران سلاحاً فعالاً.

وكثيراً ما يردد شارب أن الدكتاتوريين ينجحون في حشد القوى، وأن المحتجين «لديهم فرصة أفضل في اختيار الوسائل التي لا تستطيع قوات الأمن التعامل معها بفعالية». وتتمثل بعض اقتراحاته لتقويض سلطة الدكتاتور في الاحتجاجات الكبيرة «التي تشمل التعري»، التي ربما لا توجد في العالم العربي، حيث يسير المناوئون للحكومة عراة متحدين السلطات.

خطأ ليبي

الأسبوع الماضي ذكر شارب أن الثوار الليبيين، ربما يكونون قد ارتكبوا خطأ فادحاً، من خلال تبنيهم مواجهة عسكرية مع (الزعيم الليبي) معمر القذافي، ويقول عن ذلك «إذا حاربت بعنف فإنك ستحارب بأفضل سلاح يستخدمه عدوك، وقد تكون شجاعاً، لكنك في النهاية قد تكون بطلاً ميتاً».

عندما كتب كتابه ذلك، فقد كان يعني به أصدقاءه البورميين فقط، إذ طبعه باللغة الإنجليزية، ونشر منه نسخاً باللغة البورمية، ويقول «كنت أعتقد ان هذا يكفي». ثم بعد فترة جاء طالب أندونيسي إلى بورما ووجد نسخة من الكتاب أخذها معه الى جاكرتا، حيث تم تداولها بسرعة من المناهضين لحكومة الرئيس سوهارتو في ذلك الوقت، التي يتربع على قمتها الجيش، ويقول شارب «إن النسخة بدأت بعد ذلك في الانتشار». في عام 1997 وجد أحد النشطاء الأميركيين من أصل بولندي، يسمى مارك زيلازيكويزك، في أميركا نسخة من هذا الكتاب باللغة الإنجليزية، فأخذها خلال زيارة له الى دول البلقان، ليأخذ هذا العمل طريقه فيما بعد الى مجموعة صربية معارضة يطلق عليها «سيفك انشياتف»، أو المبادرة المدنية، حيث ترجمت هذا الكتاب إلى اللغة الصربية وقامت بنشره. وسريعاً ما أصبحت أفكار شارب مادة للجدل بين النشطاء في «أوتوبور»، وهي الحركة الصربية المعارضة التي طردت (الرئيس الصربي السابق) سلوبودان ميلوسوفيتش من السلطة. وتمت ترجمة هذا الكتاب الى نحو 30 لغة، كما انه موجود على الانترنت مجاناً. ويتم تداول هذا الكتاب في دول بدءاً من فيتنام إلى فنزويلا. واحتل مكانة تشابه المكانة التي احتلها من قبل كتاب «رأس المال» لكارل ماركس، أو الكتاب الصغير الأحمر للزعيم الصيني ماو تسي تونغ. واكتسب جين شارب بفضل كتابه «من الدكتاتورية إلى الديمقراطية» احترام قطاعات كبيرة رشحته لجائزة «نوبل» للسلام، وأشادت به افتتاحيات صحف بوسطن التي وصفته بـ«الرجل الذي غيّر العالم». وأطلق عليه أحدهم «فون كلوزويتز الحرب اللا العنفوية»، في إشارة الى الاستراتيجي العسكري البروسي. كما جلب هذا الكتاب على شارب نقمة بعض أشد الأنظمة قمعاً في العالم.

 

تويتر