دراما واقعية في الأرض المحتلة

إسرائيل تدمّر أحلام السجين الفلسطـــيني الأطول اعتقالاً في بناء أسرة سعيــــدة

صورة

قصة نائل البرغوثي، السجين الفلسطيني الذي قضى ولايزال يقضي أطول فترة حبس في معتقلات الاحتلال، هي دراما واقعية على مسرح الحياة، أبطالها من أسرة واحدة يكافحون من أجل حريتهم، قضى (نائل) في السجن أكثر من 36 عاماً، ولايزال بين جدرانه. وقضى أخوه 27 عاماً في المعتقل، زوجته أمان نافع، أيضاً سجينة سابقة، وواحدة من بطلات النضال الفلسطيني، قضت في المعتقل تسع سنوات وأطلق سراحها، مع سجينات فلسطينيات أخريات جزءاً من اتفاقات أوسلو. ويقضي ابن أخته حكماً بالسجن لمدة خمسة أعوام لاشتراكه في مظاهرة ضد الاحتلال. ومن المفارقات أن ابن عمه دخل السجن معه في القضية نفسها، وكانت زوجته حاملاً بطفل، وعندما تم الإفراج عنه كان ابنه الذي تركه في بطن أمه يقضي عقوبة بالسجن لمدة 27 عاماً.

دخل السجن بسبب قتله سائق الحافلة الإسرائيلي، موردخاي ياكويل، عام 1978، لم يكن هناك سجين قضى مثله هذه الفترة في السجون الإسرائيلية. ولم يتعرض سجين قبله لمثل تلك المعاملة المتعسفة من قبل السلطات والقانون الإسرائيلي.

منام مرعب واعتقال

في ليلة 17 يونيو 2014، كان (نائل) يشاهد التلفزيون في غرفة المعيشة، غير قادر على النوم، استيقظت (أمان) منزعجة بعد أن رأت نفسها في منامها تحيط بها مجموعة من الأطفال تبلغ أعمارهم 14 عاماً، وفسر لها (نائل) هذا الحلم بأنه يدل على السعادة في الحياة، غط بعد ذلك في نوم عميق بينما ظلت هي مستيقظة. وعند الثانية صباحاً سمعت جلبة عند الباب ثم طرقاً، فقد جاء جنود إسرائيليون، كانت تخشى أن توقظه، لكنه استيقظ بسبب الضوضاء، وتتذكر كيف أن (نائل) كان أكثر خوفاً مما رأته من قبل، أمره الجنود بالجثو على الأرض ورفع يديه فوق رأسه ثم أحكموا وثاقه، كان مشهداً يبعث على الخوف والرهبة، صورة مليئة بالقسوة لن تنمحي من ذاكرتها أبداً، تعرض زوجها للإهانة أمامها، كان (نائل) صامتاً، ثم بدأت هي الصراخ والاحتجاج، ونقلوها إلى غرفة أخرى حيث وضعت تحت حراسة جندي شاب.

أراد المحققون أن يعرفوا ما إذا كان (نائل) يعمل مع «حماس»، أو تلقى مالاً من الحركة. قلب الجنود المنزل رأساً على عقب في سياق البحث الذي استمر لمدة 90 دقيقة. تقول (أمان): صرخ (نائل) فجأة من الغرفة الأخرى «يريدون اعتقالي»، لم يسمح له الجنود بأن يقول وداعاً لزوجته، ركضت خلفهم وفي يدها قميص كانت تريد منه أن يلبسه كي لا يصاب بالبرد، حاول الجنود إخراجها، في تلك اللحظة، كما تقول، لم تكن تهتم ما إذا كانوا سيطلقون عليها النار.

تقول الآن: «لم نكن نعتقد أن هذا سيحدث له، كنا على يقين من أننا قد أنهينا ذلك الفصل المرعب من حياتنا»، وفي صباح اليوم التالي ذهبت إلى «الصليب الأحمر الدولي»، وإلى «نادي الأسرى الفلسطينيين» في رام الله، للحصول على معلومات حول زوجها.

انهار عالمها من حولها، لكنها ظلت تبتسم، وتقول «هذا هو سر الشعب الفلسطيني»، يبدو أن لا شيء يمكن أن يكسر إرادة هذه المرأة القوية.

صدر حكم بالسجن في البداية على (نائل) لمدة 30 شهراً لانتهاكه شروط الإفراج عنه، لكن عندما انتهت هذه المدة لم يتم إطلاق سراحه، ثم جاء الخبر المذهل بأنه سيكمل مدة حكمه المؤبد إضافة إلى 18 عاماً، وهو الحكم الذي استوفاه في الأصل حتى عام 1978. وبوساطة حقيبة سجن إسرائيلية رمادية ظلت (أمان) تأخذ لوحات من السجناء تعبر عن أفكار اقترحها عليهم (نائل): نسر في السماء يرمز للحرية، جمل يرمز للصبر، وأشجار نخيل رمز للأسرة، رسمت هذه اللوحات في سجن نفحة في ميتزبيه رامون عام 1996.

في أكتوبر عام 2011 تم إطلاق سراح (نائل) جزءاً من صفقة مبادلة الأسير الإسرائيلي لدى حركة المقاومة الإسلامية «حماس»، جلعاد شاليط، بعد أن قضى 33 عاماً في السجن، لكن أعيد إلى السجن بعد 32 شهراً على أساس أنه انتهك شروط الإفراج عنه، وجاء اعتقاله مرة

أخرى في أعقاب اختطاف ثلاثة مراهقين إسرائيليين في الضفة الغربية في يونيو 2014.

أعيد (نائل) والسجناء الباقون المفرج عنهم للسجن فقط لاسترضاء المستوطنين، فبعد فترة وجيزة من العثور على جثث الشبان الثلاثة، شنت إسرائيل هجوماً وحشياً على قطاع غزة أطلق عليه اسم «عملية الجرف الصامد».

وفي مايو 2015، وجدت المحكمة العسكرية في سجن عوفر، أن (نائل) لم يرتكب أي جريمة منذ الإفراج عنه، لكن في فبراير 2017 عكست المحكمة قرارها، وأمرت أن يقضي (نائل)، الذي كان في السجن منذ يونيو 2014، بقية عقوبته الأصلية، وهي السجن مدى الحياة بالإضافة إلى 18 عاماً.

اتهامات ومبررات

الاتهامات التي أدت إلى حبسه مرة أخرى، وإلى أجل غير مسمى، تتمثل في تقديمه حديثاً بإحدى الجامعات حول تجاربه في السجن، وتقارير في وسائل الإعلام الفلسطينية تشير إلى أنه مرشح ليصبح وزير شؤون الأسرى في السلطة الفلسطينية. وكان ذلك على ما يبدو مبرراً كافياً للسلطات الإسرائيلية لتزعم أنه خرق شروط الإفراج عنه، ويبدو أن هذا كافٍ لدمار هذا الشخص تماماً، الذي دفع بالفعل الدَّين مرتين لجناية واحدة ارتكبها.

أصبح مرة أخرى «عميداً للسجناء»، بعد أن قضى حتى الآن 36 عاماً وأربعة أشهر وراء القضبان. وبسبب عمره وأقدميته بين السجناء، فإن (نائل) - الذي سيبلغ عمره هذا العام الـ60 - لم يشارك في الإضراب الحالي عن الطعام الذي ينظمه السجناء الفلسطينيون، فقد تعرض بالفعل في مرافق الاحتجاز الإسرائيلية لما هو أشد قسوة من الإضراب عن الطعام.

كان (نائل) بعد الإفراج عنه يسكن مع زوجته في منزل بديع التصميم بقرية كوبار، شمال غرب رام الله، وهي أيضاً مسقط رأس أحد أقارب (نائل)، السجين الفلسطيني الأكثر شهرة مروان البرغوثي.

تبدو (أمان) أصغر من سنها الـ53، قضت هي و(نائل) فقط 31 شهراً سعيدين في هذا البيت بعد زواجهما الذي جاء بعد شهر من إطلاق سراحه، وقبل اعتقاله مرة أخرى. وخلال تلك الأشهر القليلة قامت الأسرة بتجديد المنزل، وزرع أشجار الفاكهة في الحديقة آملة في مستقبل زاهر.

(أمان) من قرية نعلين بالقرب من رام الله، تم اعتقالها عام 1987، أعجبت بالتصميم وروح الصمود التي تبديها السجينات الفلسطينيات الأخريات. عندما كانت طالبة بكلية القانون اشتركت في خطة هجومية على طريق يافا في القدس، في أعقاب المذبحة التي وقعت في مخيمَي صبرا وشاتيلا في حرب لبنان عام 1982. إلا أن ذلك الهجوم لم يحدث أبداً، وأحست أنها غير قادرة على قتل شخص ما، كما تقول الآن، وتم اعتقالها وحكم عليها بالسجن ثلاث سنوات ونصف السنة بتهمة التخطيط للهجوم، وأضيف لمدة محكوميتها عامان آخران بسبب ممارستها العنف ضد أحد الحراس أثناء سجنها. وحكم عليها بعد ذلك بـ15 سنة أخرى بسبب اعتزامها قتل حارس، قبل إطلاق سراحها عام 1997 مع جميع السجينات.

حب في السجن

بعد إطلاق سراح (أمان)، أرسل (نائل)، الذي كان لايزال في السجن، أفراداً من أسرته لطلب يدها، وسبب إعجابه بها أنه شاهد تقريراً عن اعتقالها على التلفزيون الإسرائيلي، وقال لزملائه السجناء «هذه المرأة ستكون زوجتي»، أما (أمان)، التي منعتها سلطات السجن من زيارته، والتي لم تكن قد رأته حتى ذلك الوقت، فقد رفضت قبوله زوجاً. وكانت تدرس اللغة الإنجليزية في الجامعة، وتعمل في وزارة الشباب والرياضة الفلسطينية. وتزوجت بعد ذلك من مسلم أميركي من أصل إثيوبي؛ أنجب منها ابناً، وهو الآن يبلغ من العمر 18 عاماً. وعندما اتضح أن زوجها لا يستطيع الحصول على تصريح بالبقاء في الضفة الغربية، وأنه لم يكن بإمكانها الحصول على تأشيرة أميركية بسبب سجلها الأمني، طُلقت منه.

رأى (نائل) (أمان) مرة أخرى في التلفزيون الفلسطيني عندما استضافت برنامجاً حول شؤون عائلية، وكان ذلك قبل سبع سنوات من إطلاق سراحه؛ ثم شاهدته في حفل استقبال السجناء المحررين بمقر السلطة في رام الله. وفي اليوم التالي تحدث معها هاتفياً وقررا قضاء بقية حياتهما معاً. وبعد شهر من ذلك عقدا قرانهما، وأقاما احتفالين أحدهما في رام الله، حضره كبار الشخصيات في السلطة الفلسطينية، والآخر بقرية (نائل) في كوبار.

كان (نائل) أول سجين من صفقة شاليط يُعقد قرانه. وظل يتنسم عبير الحرية لمدة 31 شهراً. أخذ دروس قيادة السيارات على يد (أمان). وبموجب شروط الإفراج عنه، كان عليه أن يقدم تقريراً مرة كل شهرين إلى الإدارة المدنية للحكومة العسكرية في «بيت إيل». وبعد ذلك بعام، عندما تم الإفراج عن شقيقه (عمر) من السجن، كانت هذه هي المرة الأولى منذ 34 عاماً التي يلتقي فيها الشقيقان. وتتذكر زوجته المرة الأولى التي قفز فيها إلى بركة سباحة، وكان لا يستطع السباحة. وأثبت في حفلة الزواج أنه «دبيك» ماهر، والتحق بجامعة القدس المفتوحة لدراسة التاريخ، لقد ابتسمت الحياة للزوجين.

تويتر