بعد 25 عاماً من التجديد

باليرمو.. معقل «المافيا» والجريمة تتحــوّل إلى مدينة الحدائق والمعالم التاريخية

صورة

تصل كل مدينة في مرحلة ما من تاريخها، إلى نقطة تحول جوهرية، وبالنسبة الى باليرمو، كان ذلك ذات يوم في يوليو 1992، عندما احتل أكثر من 1500 جندي، مدججين بأسلحة آلية، مواقع في كل ركن من شوارعها الهادئة في عرض غير مسبوق للقوة في إيطاليا، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

800

موقع استردّته السلطات من «المافيا» في صقلية.

4000

عنصر في «المافيا» تم القبض عليهم في صقلية منذ التسعينات.

وفي ذلك الوقت كانت البلاد تفقد الحرب لصالح عصابات المافيا. وقبل ستة أيام، من انتشار عناصر الجيش، قتل كبير القضاة، باولو بورسلينو، بسيارة مفخخة، وقد كان يحقق مع قادة «المافيا» في جزيرة صقلية «كوزا نوسترا»، كما توفي خمسة ضباط كانوا يرافقون القاضي. وفي مايو 1992، انفجرت سيارة قاضٍ آخر، جيوفاني فالكوني، العدو الأول لزعماء «المافيا». ووضعت في سيارته نحو 300 كيلوغرام من مادة «تي إن تي»، أحدثت انفجاراً كبيراً تسبب في حفرة عمقها 15 متراً على الطريق السريع الذي يربط المطار بالمدينة، وقتل فالكوني مع زوجته وثلاثة ضباط مرافقين.

«باليرمو تماماً مثل بيروت»، كان العنوان الرئيس على الصفحات الأولى من الصحف الإيطالية الرائدة في ذلك الوقت. وكانت حروب «المافيا» الإيطالية في ذروتها آنذاك، في جزيرة صقلية. واعتقد كثيرون أن باليرمو وصلت إلى نقطة اللاعودة، ولكن قدرتها على الارتداد من الأزمة باتت علامة مميزة، لمدينة شهدت عنفاً أكثر من أي مدينة أخرى في البحر الأبيض المتوسط.

تبدو حروب «المافيا» في أوائل التسعينات، على بعد سنوات ضوئية من واقع المدينة الآن. ففي الممرات المذهبة بمبنى البلدية كان الصحافيون ينتظرون، الشهر الماضي، ليسألوا العمدة ليولوكا أورلاندو، عن الأنباء التي تفيد بأن باليرمو قد رشحت عاصمة للثقافة الإيطالية لعام 2018، ويعتبر هذا ضمن قائمة الإنجازات التي حققتها المدينة.

 

قيمة اجتماعية

يقول أستاذ تخطيط المدن بجامعة باليرمو، ماوريتسيو كارتا: «هذا النوع من التجديد الحضري له أيضاً قيمة اجتماعية»، متابعاً «في المدن التي تشهد جرائم عالية الخطورة، غالباً ما تصبح المناطق المهجورة أماكن للأنشطة الإجرامية، تزدهر فيها (المافيا)، ولإعادتها الى حالتها العادية، نحن بحاجة إلى تنظيفها وتخطيط مساحات عامة».

ومن الأمثلة على ذلك، «لا كالا»، ميناء اليخوت ومرسى باليرمو، وقد فاز كارتا بجائزة بينالي العالمية للعمارة في عام 2015 لخطته لتجديد الميناء، علماً انه حتى 2005، كانت المنطقة مهملة تماماً، ومكاناً مملوءاً بالقمامة يرتاده تجار المخدرات، الذين يعملون لصالح الجريمة المنظمة. وفي ذلك يقول أستاذ التخطيط: «كان علينا أن نبدأ في تلك الأماكن التي كانت تحت الأنقاض والقمامة، والتي تخفي وميضاً حياً، وإمكانية الارتداد إلى الوراء»، موضحاً «كان لا كالا واحداً من هذه الأماكن».


مكافحة   «المافيا»

يقول الإيطاليون إن «لا كالا» هو رمز ولادة جديدة لمدينة باليرمو، وترسو مئات اليخوت هناك الآن، في حين تحيط المساحات الخضراء والمقاهي بالمرفأ القديم. ويتوافد السياح والعداؤون وراكبو الدراجات الهوائية على المكان للاستمتاع بالأجواء المتوسطية الجميلة، وبات الماضي القريب مجرد ذاكرة سيئة.

وقد استعادت باليرمو ساحاتها، بعد أن استخدمت «المافيا» العديد منها مواقف سيارات غير قانونية، إذ كان من الأفضل أن يدفع صاحب السيارة لعناصرها، إذا أراد العثور على سيارته قطعة واحدة عندما يعود. وعلى الرغم من أن مواقف السيارات غير القانونية لاتزال موجودة في باليرمو، إلا أن العديد من الساحات التاريخية تمت تهيئتها للمشاة، وإقامة نقاط تجمع الدراجات الهوائية.

كما تزداد باليرمو اخضراراً مع «ترام» كهربائي تم تركيبه حديثاً، وخط مترو يربط أطراف المدينة بمركزها. كل هذا قد يبدو عادياً في أمستردام وزيوريخ وأوسلو، ولكن في مدينة كانت شوارعها مراقبة من قبل مئات الجنود المسلحين حتى 1998، فإنه ليس شيئاً عادياً.

النصب التذكاري الذي أقيم حيث قتل القاضي جيوفاني فالكوني، هو واحد من الأماكن الأكثر زيارة في جولة «مكافحة المافيا» التي نظمتها «أديوبيزو»، وهي جمعية تأخذ الزوار إلى الأماكن التي ترمز للحرب ضد العصابات الصقلية. وحالياً، فإن زعماءها الأكثر قوة هم في السجن، وقد حل محلهم مجرمون شباب لا يبدو أنهم يتمتعون بالسلطة نفسها لأسلافهم.

لايزال أمام باليرمو طريق طويل؛ إذ لاتزال «المافيا» تسيطر على بعض الشركات هناك. والشباب يجدون صعوبة بالغة في إيجاد وظائف، ولاتزال الضواحي فقيرة، وأيضاً الكثير من السكان. ويقول بعض الناس إن باليرمو باتت «مطهر» لم يكشف كل الخطايا بعد. ويقول العمدة أورلاندو، ولكن بعد كل شيء «بين الجنة والنار، كل يوم يمر على هذه المدينة تصبح مكاناً أفضل بكثير للعيش».

في يوليو الماضي، أوصت منظمة «اليونسكو» بتصنيف مركز باليرمو التاريخي ضمن مواقع التراث العالمي، وفي العام المقبل سوف تستضيف المدينة فعاليات «مانيفيستا»، التي تعتبر أهم معرض للفن المعاصر في أوروبا.

«هل رأيت هذه الغرفة.. جميلة أليس كذلك؟» يقول العمدة أورلاندو، وهو يشير إلى لوحات تعود إلى القرن الـ18 على جدران مكتبه. ويتذكر المسؤول، قائلاً: «قبل أن أجلس على هذا الكرسي، كان الكثير من الناس يرتاد المكتب، من بينهم أصدقاء لـ(المافيا)، وربما أعضاء في العصابات أيضاً».

ويعتبر أورلاندو، 69 عاماً، واحداً من أفضل رؤساء البلديات في إيطاليا، وهو حاصل على درجة الدكتوراه في القانون، ويتحدث خمس لغات، وحكم المدينة لمدة 17 عاماً، وإذا تغيرت المدينة، فإن ذلك بفضل مجهوداته.

ساحة معركة

في ذلك الصيف المشؤوم من عام 1992، كان أورلاندو يفكر في الترشح لرئاسة البلدية للمرة الثانية، بعد عامين من تأسيس حزب «لاريت». لقد كانت باليرمو جاثمة على ركبتيها. ويصف الصحافي في «لا ريبوبليكا» الإيطالية، أتيليو بولزوني، الذي عاش في باليرمو منذ 25 عاماً، المدينة في تلك السنوات بأنها «ساحة معركة لـ(المافيا)»، موضحاً «شعرت وكأني مراسل حرب في مدينتي»، متابعاً «عملت في أفغانستان والبلقان والعراق، ولكنني لم أشعر أبداً بالخوف كما فعلت في باليرمو خلال تلك السنوات». وكان على بولزوني الحذر ومراقبة ما يدور حوله طوال الوقت، «كنت أجد عناصر (المافيا) في كل مكان، في الشوارع، في المحال التجارية، وفي البنوك». ويتذكر الصحافي «كنت أشعر وكأن حظر التجوال كان قائماً، لم يكن هناك مقهى واحد، حيث يمكنك الجلوس في المساء. في كل مرة يرن فيها الهاتف في مكتبي كنت أخشى أنهم قتلوا صحافياً آخر أو شرطياً أو قاضياً».

أجريت الانتخابات في نوفمبر 1993، وفاز أورلاندو، الذي عمل على محاربة «المافيا». واليوم، باليرمو هي عاصمة الثقافة الإيطالية، بعد أن كانت عاصمة «المافيا».

يقول أورلاندو: «كان علينا التخلص من زعماء المافيا قبل كل شيء»، متابعاً «الكثير منهم كانوا يجلسون في منازلهم الفاخرة في وسط باليرمو، يخططون للقتل، مستخدمين أموالهم الطائلة التي يجنونها من تهريب المخدرات». وقد صدرت قوانين خاصة ضد قادة المافيا وشركائهم، بمن فيهم موظفو البلدية الذين عملوا لصالحهم، وقد باتت العقوبات وأوضاع السجون أكثر قسوة.

وفقاً لأرقام الحكومة الإيطالية، تم القاء القبض على أكثر من 4000 عنصر في «المافيا» في صقلية منذ التسعينات. واليوم، تراجعت «المافيا» الصقلية بشكل كبير، ما يعطي باليرمو استراحة هي في أمسّ الحاجة إليها. ولكن الانتعاش الحقيقي سيستغرق بعض الوقت، اذ ان الجروح التي تسببت فيها «المافيا» واضحة في المدينة، حيث تواطأ السياسيون المرتبطون بـ«المافيا» لهدم القصور الرائعة لإفساح المجال للأبراج الأسمنتية.

أطنان الخرسانة

يقول أستاذ تخطيط المدن بجامعة باليرمو، ماوريتسيو كارتا، الذي شارك في تجديد المدينة، إن «(المافيا) شوهت جمال باليرمو من خلال جلب أطنان من الخرسانة دون مراعاة التراث التاريخي أو الفني للمدينة. لقد هدموا منازل رائعة تعود للقرن التاسع عشر وتخلصوا من الأنقاض مباشرة على الساحل القريب، ما أدى إلى تدمير الشواطئ».

وبهدف إقناع الناس بالعودة، قررت السلطات تجديد المدينة القديمة من خلال إعادة المباني القديمة إلى روعتها السابقة. وقدم مجلس المدينة التمويل المناسب لتحفيز هذه العملية، وبدأ أصحاب المنازل الاستثمار في تجديد ممتلكاتهم، بعضها تم التخلي عنها منذ الحرب العالمية الثانية. وخلال 25 عاماً، تم تجديد أكثر من 60٪ من المباني التاريخية في المدينة. واستثمر جزء من ممتلكات زعماء المافيا الصقلية، التي تقدر بنحو 30 مليار يورو، في مجالات اجتماعية وبيئية وثقافية جديدة في المدينة.

في كاباسي، خارج منطقة باليرمو، حيث قتل فالكون، تم تحويل حقل تم استرجاعه من زعيم محلي، إلى منطقة للعب الأطفال المعاقين. وهناك موقع آخر أعيد تشكيله في ضواحي المدينة هو «جياردينو ديلا ميموريا»، أو «حديقة الذكريات»، على مساحة 25 ألف متر مربع. لقد استولت عليها السلطات في 1993، وهي الآن مليئة بأشجار اليوسفي والليمون والبرتقال، وفي المدخل نصبت لوحة تحمل اسم القاضي الذي قتل لمعارضته «كوسا نوسترا».

وفي مكان آخر، تحولت فيلا ريفية جميلة، كانت تستخدم مقراً للاجتماع ومركز أعمال لعصابات محلية، إلى مقر الحركة الكشفية المحلية، وهذه ليست سوى ثلاثة من نحو 800 موقع يعاد استخدامها.

خسائر قليلة

قررت المدينة محاربة «المافيا» باسم العدالة والقانون، واضطرت السلطات المحلية لفتح قنوات حوار مع العصابات التي كانت هي أيضاً مجبرة على التفاوض مع السلطات، ويأتي التفاوض مع «المافيا» في اطار محاربة إيطاليا لهذه العصابات.

يقول عمدة باليرمو، ليولوكا أورلاندو، إنه بالإمكان محاربة «المافيا» بأقل الخسائر اليوم، وقد سجلت خسائر بشرية قليلة مقارنة بوقت سابق، لكن الأمور لاتزال معقدة وصعبة. ولا تريد عصابات المافيا أن تتم مراقبة الحدود، كما تفضل أن تكون هناك أزمة مالية خانقة في المدينة، فهذا في صالحها. ويتعين على الحكومة في روما مراقبة الأموال بطريقة فعالة، ومعرفة مصادرها.

ويؤكد أورلاندو عدم إجرائه لأي اتصالات مع عصابات المافيا، إذ قال في بداية حياته السياسية إنه ليس بحاجة إلى علاقات مع هذه المجموعات. لهذا، فان «المافيا» لا تتجرأ على الاقتراب منه، وفق تعبيره. وعندما تم انتخابه أول مرة عمدة لمدينة باليرمو، أنشأ محكمة «أولا بونكر»، تحضيراً لمحاكمة كبيرة لعصابات المافيا. ويعتقد العمدة أن لديه تاريخاً سياسياً يفرض على «المافيا» الابتعاد عنه، وهذا لا يعني طبعاً أنها لم تحاول الاقتراب منه والحصول على بعض الامتيازات.

تويتر