تعاني قلة الولادات وشيخوخة المجتمع

ألمانيا بحاجة إلى المهاجرين للحفـاظ على تقدمها وازدهارها

صورة

منذ أكثر من عام، يحتدم النقاش في أوروبا حول اللاجئين، في وقت شهدت فيه بعض البلدان في هذه القارة تدفقاً غير مسبوق للنازحين من الشرق الأوسط. ونالت ألمانيا النصيب الأكبر، إذ استقبلت مئات الآلاف من المهاجرين. وفي الوقت الذي رفضت فيه شريحة واسعة من الألمان استقبال أعداد كبيرة منهم، لم يجد لاجئون سوى الاستقرار في هذا البلد، ومحاولة الاندماج في المجتمع بشتى الطرق. وتناقلت التقارير قصص نجاح مثيرة للاجئين، تمكنوا من شق طريقهم في سوق العمل، على الرغم من المصاعب التي واجهتهم. وهناك كثير من اللاجئين من أصحاب المهارات بانتظار السماح لهم بالعمل في البلاد، الأمر الذي يثير جدلاً واسعاً في ألمانيا.

كفاءات

أفادت دراسة أجريت لصالح مؤسسة «بيرتسلمان» أن المهاجرين الجدد في البلاد، يتمتعون بمستوى تعليمي أفضل من الألمان، الذين لا ينحدرون من أصول مهاجرة. علماً بأن خبراء يطالبون بفتح المجال أمام هؤلاء المهاجرين من خارج دول الاتحاد الأوروبي، والتي تعاني أزمات مالية، بهدف إفساح المجال أمام الأشخاص المؤهلين، الذين يرغبون في المجيء إلى ألمانيا. وأظهرت الدراسة أن 43% من المهاجرين الجدد يتقنون أعمالهم، ويحمل عدد منهم شهادات جامعية في مختلف التخصصات، فيما لا تتجاوز نسبة هؤلاء من بين الألمان غير المنحدرين من أصول مهاجرة ا26%.

حاجة إلى الكفاءات

«مصائب قوم عند قوم فوائد».. تنطبق هذه المقولة تماماً على الحالة الألمانية. ففي وقت تواجه فيه سورية تدميراً وحشياً، وهروب الكفاءات منها، وصلت ألمانيا إلى مرحلة من الحاجة الشديدة إلى عمال شباب. فهذا البلد الأوروبي يعاني تراجع المواليد وارتفاع نسبة الشيخوخة. ويقول الباحث في معهد برلين للدراسات السكانية والتنمية، فرديريك سيفرت: «خلال السنوات الخمس الماضية، زاد عدد السكان بفضل المهاجرين، لكني أتوقع أن الانكماش السكاني سيعود مجدداً في المستقبل». وتقدر هيئات واتحادات أرباب العمل في ألمانيا أن الاقتصاد الألماني يحتاج، في الوقت الحاضر، إلى نحو 100 ألف أجنبي من ذوي الخبرات والكفاءات، وهنا تبرز الحاجة إلى الكفاءات الهندسية في مختلف المجالات، وفي مقدمتها تكنولوجيا المعلومات. وفي هذا السياق، جاء في دراسة لصالح مؤسسة «بيرتسلمان» الألمانية، أن ألمانيا تحتاج سنوياً إلى أكثر من نصف مليون مهاجر، خلال العقود المقبلة، من أجل الحفاظ على إمداد سوق العمل، وفاهلية آلية الضمان الاجتماعي، بالقوة العاملة اللازمة لاستقرار هذه الآلية حتى عام 2050.

وعندما اعترفت برلين بهذا العجز، قبل 10 سنوات، طالب خبراء اقتصاديون بالمسارعة إلى وضع خطط لاستقطاب العمالة الشابة الأجنبية، وجعل ألمانيا هدفاً لها. ويبدو أن مشكلة اللاجئين ستتحول إلى صالح الألمان، وتقدم حلاً جيداً للانكماش السكاني، في السنوات العشر المقبلة على الأقل. وفي ذلك يقول سيفرت: «المسألة تتعلق بإيجاد مناصب عمل لجميع المهاجرين، ولكن كيف؟»، موضحاً: «لا نعلم بالتحديد مستوى الكفاءات التي يتمتع بها المهاجرون الذين قدموا إلينا، خلال الأعوام القليلة الماضية، فنحن لا نعرف إلا القليل حول هذه الموجة من المهاجرين والنازحين».

سمعة ممتازة


خلال الأزمة السورية، لجأ إلى ألمانيا نحو 5000 طبيب سوري، وما يقارب هذا العدد من المهندسين. ويعني ذلك أن المبالغ الطائلة، التي أنفقتها الحكومة السورية على مدى عقود، لتعليمهم وتأهيلهم، انتقلت عبر هؤلاء إلى مختلف الولايات الألمانية. بيد أن الحكومة الألمانية خصصت بضعة مليارات فقط، لاستيعاب اللاجئين السوريين وغير السوريين. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن الجزء الأكبر من هؤلاء دخل بالفعل سوق العمل، والقسم المتبقي يستعد لذلك، فإن ذلك سيجلب دعماً كبيراً للناتج المحلي الإجمالي، وزخماً للاقتصاد الألماني، بمزيد من الازدهار، خلال السنوات القليلة المقبلة. في هذا السياق يتحدث عدد من الخبراء الألمان عن «الطبيب السوري»، الذي يتمتع بسمعة ممتازة في ألمانيا، بسبب مستوى تأهيله الذي يعادل نظراءه في أوروبا، وهو الأمر الذي يساعده على الاندماج في سوق العمل الألمانية والأوروبية بسهولة.

ومن هؤلاء الطبيب (أبومحمد)، الذي طلب عدم الكشف عن اسمه، لخشيته على حياة عائلته في سورية، فقد بدأ العمل في مستشفى ألماني منذ عامين، واعتاد وضعه الجديد، إلا أن جراح العظام الشاب، يريد أن يجتمع بأسرته في أقرب وقت. أما الطبيبة أريج ملحم، فلم تجد عائقاً في عملها سوى اللغة المختلفة، بداية الأمر، لكنها تغلبت على هذه العقبة بسهولة، وباتت تتقن الألمانية.

هذا البلد الأوروبي هو الوجهة المفضلة للاجئين السوريين وغيرهم، الذين يعتبرونه بلداً ثرياً، ويأمل كثير منهم أن يحصلوا على السكن والتعليم لأطفالهم، فضلاً عن وفرة فرص العمل. يذكر أن دائرة الهجرة في ألمانيا تلقت أكثر من 800 ألف طلب لجوء، العام الماضي، بواقع أربعة أضعاف عدد الطلبات في 2014.

لا يواجه المهاجرون الجدد التمييز في سوق العمل وحسب، بل يتعين عليهم التأقلم مع العنف العنصري، بما في ذلك الهجمات غير المبررة، والاحتجاجات في الشوارع ضد القادمين الجدد، التوجه الذي يتزايد يوماً بعد يوم في ألمانيا، وتؤججه بعض النزعة القومية والعنصرية، التي تبنتها مجموعات عنصرية ويمينية. ويعتقد الكثير من الألمان أن اللاجئين يحصلون على مزايا «لا يستحقونها»، بما في ذلك المعونات المالية والمساكن، كما يتهمونهم بأخذ وظائفهم، وتحميل البلاد عبئاً جديداً هي في غنى عنه. إلا أن إحصاءات جديدة أشارت إلى أن الأجانب، بما في ذلك اللاجئون، في ألمانيا، يضيفون إلى خزينة الدولة نحو 22 مليار يورو، حتى مع تخصيص دعم اجتماعي لهم. ويرتفع هذا المبلغ كل عام مع قدوم مهاجرين جدد أكثر كفاءة وتعليماً. وقد صرح مسؤولون ألمان، بينهم رئيس البنك المركزي الألماني، يانس فايدمان، أخيراً، أنه يدعم الهجرة، «لأن ألمانيا تواجه تحديات ديمغرافية خطيرة، تتمثل في تزايد شيخوخة المجتمع، وقلة الولادات، وزيادة التنافسية مع الاقتصادات الصاعدة». ونظراً لهذه التحديات فإن ألمانيا، يوضح فايدمان، بحاجة إلى مزيد من العمال الأجانب، للحفاظ على تقدمها وازدهارها.

عمل دؤوب

في مصنع صغير بمدينة «ديسبورغ»، يتزاحم شباب مهاجرون في عمل يومي دؤوب، يرتدون بدلات خاصة، ويقومون بأعمال لحام الأنابيب. يقول الشاب السوري نديم (27 عاماً)، إن العمل في الورشة «شيء جيد لي، وأنا أريد أن أعمل دائماً». ويضيف اللاجئ، الذي جاء من ريف حلب، أن فرصة العمل التي أتيحت له جاءت بعد معاناة طويلة دامت أشهراً، وتكبد مع العشرات من اللاجئين المصاعب أثناء رحلة شاقة، اضطروا خلالها للهروب أحياناً، والمغامرة أحياناً أخرى، إلى أن وصلوا إلى هذا المكان، كما ضيعوا الكثير من الوقت في انتظار دراسة طلباتهم للجوء.

ويعبر مدير المركز المهني في مدينة ديسبورغ، فرانك بروكسمير، عن إعجابه بهؤلاء الشباب المهاجرين قائلاً: «نادراً ما أشاهد أشخاصاً متحمسين هكذا»، مضيفاً «أنهم يحبون العمل، ولا يتعبون أبداً، كأنهم ولدوا من جديد». ويقدم المركز المهني برامج تأهيلية عدة، كدورات لتعليم قيادة الحافلات، أو دورات مهنية في إصلاح العتاد الطبي، وأنظمة التدفئة والتبريد. يذكر أن هذه التخصصات لا تلقى إقبالاً من قبل الشباب الألمان.

وقدم مدير المركز مبادرة لتوظيف 17 شخصاً من اللاجئين في مجال التدفئة والتبريد. وعمال التدفئة، على سبيل المثال، مطلوبون دائماً في ألمانيا، ولا خوف عليهم مقارنة بالمهن الأخرى، يضيف بروكسمير. ومع نجاح المشروع يحاول مطلقو المبادرة كسب لاجئين آخرين لمشروعات أخرى، خصوصاً في المهن التي تعاني ندرة الأيدي العاملة، كقيادة الحافلات، ورعاية كبار السن.

وخلال الدورات التي يقدمها المركز، يتلقى المتدربون محاضرات لتعلم اللغة الألمانية، والرياضيات، وتعلم المصطلحات التقنية، التي قد يحتاجها ميكانيكو المستقبل في عملهم. ويمكن للاجئين الاستفادة من خبراتهم السابقة في هذه المجالات، لكن أغلبهم لا يمكنهم تقديم أي وثائق تثبت خبرتهم ودراستهم، ويقول بروكسماير معلقاً على ذلك: «من يرد أن يهرب على متن القوارب في أعالي البحار، لا يفكر في جلب وثائقه المدرسية معه».

حالة مخيفة

في سنة 2013، وحدها، هاجر أكثر من 1.2 مليون شخص إلى ألمانيا، علماً بأن الهجرة إلى ألمانيا بدأت في خمسينات القرن الماضي، حيث قصدها الباحثون عن العمل، أما أغلب المهاجرين الجدد حالياً، فهم من الشرق الأوسط وسورية بالتحديد. وجاء أغلب اللاجئين العاملين في المصنع الصغير بمدينة ديسبورغ من سورية، وغرب إفريقيا. وهؤلاء اللاجئون، ما عدا شخص واحد منهم، لايزالون بانتظار البت في طلبات لجوئهم في ألمانيا. وهم لا يعرفون المدة التي سيسمح لهم بها للبقاء في ألمانيا. وهذه الحالة تخيف الكثير من أرباب العمل الألمان من توظيف هؤلاء اللاجئين، بسبب أوضاعهم القانونية، والخوف من تسفيرهم لاحقاً.

واستقطب مدير إحدى الشركات لصيانة التدفئة والتبريد والتجهيزات الصحية في مدينة ديسبورغ، يدعى أوفيه شوبيل، عشرات العمال، نصفهم من سورية، في دورات مهنية لتهيئتهم للعمل لاحقاً في هذا المجال. ومن بين هؤلاء (جهاد)، الذي هاجر من دير الزور قبل ثلاث سنوات، ولأنه حصل على إقامة رسمية، فقد قدمت له الشركة فرصة لدخول دورة تدريبية تأهيلية والعمل.

وقد بدأ الشاب السوري الدورة التأهيلية قبل أشهر، ويحاول تعلم المصطلحات التقنية التي يحتاجها في العمل، وفي ذلك يقول: «بعض الأحيان يطلب مني زملائي في العمل شيئاً ما، وأنا أجلب أشياء أخرى لهم». وقد اضطر (جهاد)، الذي حصل على شهادة جامعية في سورية، للعمل بيديه في مدينة ديسبورغ، وهذا شيء غير مألوف بالنسبة له.

ويقول مدير (جهاد) في العمل، فيليب شناير، إنه راضٍ جداً عن أدائه، بعد انقضاء فترة كافية في الشركة. ويحتاج المهاجر السوري إلى بعض المساعدة في الدورة التأهيلية، ورغم ذلك يبقى شناير متفائلاً به، قائلاً: «بين اللاجئين هناك الكثير من الشباب الطموحين والمتعلمين، والراغبين في العمل». ولاتزال إمكانيات هؤلاء اللاجئين لم تستغل، ولم يتم التعرف إليها بصورة صحيحة. ويوضح: «كمدير شركة يفكر المرء ملياً قبل توظيف شخص ما؛ لكنني مقتنع تماماً بأنه يجب عليَّ ألا أحمل هذه المخاوف». وعلى (جهاد) قضاء سنوات في الدورة التأهيلية بالشركة. وهو يحمل خططاً واضحة لمستقبله، ويريد أن يكمل مسيرته المهنية، ليكون متخصصاً في عمله، ولكي يمكنه تدريب الشباب مستقبلاً في هذا المجال.



تويتر