جندي أميركي سابق التقاهم بعد 50 عاماً خلال بحثه عن ظروف مقتل شقيقه

«أطفال فيتنام» يتذكرون مأســــاتـهم خلال الحرب

صورة

كان لاري جونز في الـ14 من العمر يمارس الرياضة في المدرسة، عندما علم أن شقيقه قُتل في فيتنام. في تلك الأيام، تولى الرئيس ريتشارد نيكسون رئاسة الولايات المتحدة، وكان ذلك في سبتمبر 1969، متعهداً بإنهاء الحرب الدامية في فيتنام. وكان الرأي العام يضغط على البيت الأبيض، بشكل مستمر، لسحب القوات الأميركية من هذا البلد الذي أصبح مصيدة قاتلة للجنود. واستغرق وصول جثمان شقيق لاري جونز، ويدعى جيف، خمسة أشهر للوصول إلى أميركا.

رعب مستمر

يقول بعض أطفال حرب فيتنام إنهم بقوا على قيد الحياة بفضل بقايا الطعام التي كان الجنود الأميركيون يرمونها بجانب المعسكرات التابعة لهم. ويقول أحدهم، ويدعى توان: «كنا نذهب إلى القمامة ونأخذ أشياء كثيرة، بما في ذلك البيض والجبنة واللحم المعلب». ويضيف «كان الجنود يعطوننا الحلوى أيضاً». وعندما اجتاح الشيوعيون القرى في الشمال، فر الأهالي من القرية، وخلال النزوح أصيبت والدة توان في رجلها بطلقة نارية، وتاهت شقيقته وتعيّن عليه العودة للبحث عنها. ويقول: «كنا في رعب مستمر وكنا نفر من مكان إلى آخر خوفاً من بطش الشيوعيين، وعندما انتهت الحرب تعيّن علينا طلب الصفح منهم». ويؤكد توان أن الحياة كانت في غاية الصعوبة بعد انسحاب الأميركيين، وبات التعايش مع الشيوعيين أمراً لا مفر منه. وحرم معظم الأطفال من التعليم أثناء الحرب بسبب النزوح والدمار الذي لحق بالمدارس، فقد اضطر أطفال للعمل في الحقول وتربية المواشي، بعد أن سُجن آباؤهم من قبل الشيوعيين، بعد انتصارهم في 1975، ومن هؤلاء «مينه» الذي وجد نفسه وحيداً ليعيش في مخيم مكتظ بالنازحين. وهو اليوم يمارس لعبة «مصارعة الديكة» الرائجة في فيتنام.


ذكرى مؤلمة

http://media.emaratalyoum.com/images/polopoly-inline-images/2015/03/276285.jpeg

وفي واحدة من الصور، التي التقطها الممرض الأميركي بوب في فيتنام، تظهر فتاة تدعى «سا» وهي تنظر إلى العدسة بحذر، ويجلس شقيقها «لوك» بجانبها بفارغ الصبر، في انتظارعلاج رجلها المصابة. والصورة هي واحدة من الصور المفضلة لدى بوب، وعندما رأتها «سا»، أول مرة بعد 50 عاماً، أجهشت بالبكاء.

وبعد 50 عاماً من تلك الحرب، يقول لاري: «لقد كان مجرد حادث مألوف في فيتنام». وبعد أن خدم في البحرية الأميركية، بدأ لاري في عملية بحث عن قدامى المحاربين في فيتنام إلى جانب شقيقه جيف. وتكتّم الجيش الأميركي على ملابسات وفاة جيف، إلا أن لاري قرر البحث بطريقته الخاصة من أجل معرفة الحقيقة. وشيئاً فشيئاً توصل إلى معرفة السبب وراء مقتله، فقد كان شقيقه وسبعة من زملائه ضحية انفجار ذخيرة وقع عن طريق الخطأ، وتمزقت أجسام الجنود ولم يبقَ منها إلا جثتان سالمتان نسبياً، وكان جيف أحدهما.

وخلال بحثه عن قدامى المحاربين من الجنود الأميركيين للحصول على المزيد من المعلومات، عثر لاري على صور التقطها مجند في الصحة العسكرية، يدعى بوب شيرلي، والذي كان بالخدمة في الوقت نفسه الذي كان جيف هناك. وكان جيف يبدو في الصور مع مجموعة من الأطفال الفيتناميين، وكانت الصور واضحة جداً، وفقاً للاري، «تساءلت أين هؤلاء الأطفال الآن؟ هل مازالوا على قيد الحياة؟». وراود لاري شعور بأنه ربما تكون هناك صلة بين الأطفال ومصير شقيقه، «لذا أردت أن أعرف ما إذا كانوا على قيد الحياة أم لا».

استعان لاري بالمصور بوب الذي زوده ببعض الصور والمعلومات، ثم سافر إلى قرية «شون ثان»، شمال فيتنام، في عملية بحث تبدو صعبة للغاية، نظراً لمرور زمن طويل على الحادثة. وتقع القرية على بعد كيلومترات من قاعدة «فاير بايس جيلا»، حيث قتل شقيقه. وقد نصب الجيش الأميركي خيمة طبية، قبل أكثر من 50 عاماً، لتوفير العلاج لسكان المنطقة أيضاً. وقد عمل الممرض بوب، الذي كان يهوى التصوير، على توثيق كل ما يجري، والتقط صوراً نادرة لأطفال القرية والمناطق المحيطة الذين كانوا يرتادون خيمة العلاج. ولغاية سفر لاري إلى فيتنام، أخيراً، لم يعلم أحد من قدامى المحاربين، أن قرية «شون ثان» تم إخلاؤها بالكامل من السكان، بعد التقاط بوب للصور بفترة وجيزة، وكان ذلك نهاية عام 1969. فالقوات القادمة التي زحفت من الشمال أرغمت الأهالي على ترك قراهم ومساكنهم. وكانت القوات الشيوعية تقتل كل من يشتبه في تعاونه أو له علاقة بالأميركيين. ولحسن الحظ فقد نزح أغلب أهالي «شون ثان» إلى ما يسمى الآن مدينة «فونغ تاو» في الجنوب، وتربطهم إلى الآن الصداقة والجيرة.

نزوح قسري

استمرت عملية تعقّب «أطفال الحرب» بضع سنوات، واحتاج لاري إلى مساعدة رجل يقول إن لديه «ذاكرة فوتوغرافية». وبعد أن شاهد «ثي» الصور التي بحوزة لاري تمكن من العثور على 16 طفلاً من أولئك الذين ظهروا على صور بوب، التي التقطت قبل نحو خمسة عقود. وفي واحدة من تلك الصور، تظهر فتاة تدعى «سا» وهي تنظر إلى العدسة بحذر، ويجلس شقيقها «لوك» بجانبها بفارغ الصبر، في انتظارعلاج رجلها المصابة. الصورة هي واحدة من الصور المفضلة لدى بوب، وعندما رأتها «سا» أول مرة بعد 50 عاماً، أجهشت بالبكاء، وتقول: «كنت مجرد طفلة صغيرة، سعيدة لأنني أعيش مع الأميركيين». وتعيش «سا»، حالياً، في مزرعتها التي تنتج الفاكهة برفقة زوجها، وتضيف «أذهب إلى المدرسة في الصباح، يأخذني الجنود (الأميركيون) إلى معسكرهم، ويعطونني الطعام كل يوم تقريباً». وتعرضت «سا» لإعاقة دائمة بسبب انفجار الذخيرة، وخضعت لجراحة في مستشفى أميركي، لكنها لم تشفَ بالكامل. وما زاد الطين بلة، أنها اضطرت للنزوح من قريتها بسبب الزحف الشيوعي خلال السبعينات. وتتذكر ذلك بالقول: «لم يكن هناك طعام، لم يكن هناك سوى الموت والرعب». وتضيف أنه «بعد عام 1975 (عندما استولى الشيوعيون على الحكم) انتقلت حياتنا من مأساة إلى أخرى». وتزوجت «سا» في نهاية المطاف، وشيدت مزرعة لإنتاج الفواكه، ولديها الآن ثلاثة أطفال يعيشون بالجوار. وعلى الرغم من مرور كل هذه السنين لاتزال «سا» تشعر بالألم في رجلها المصابة، وتقول: «لاتزال رجلي تؤلمني، وأحتاج إلى من يساعدني على الوقوف».

ومع ذلك، تؤكد «سا»، أنها شعرت بالسعادة عندما زارها لاري في ديسمبر الماضي، برفقة اثنين من قدامى المحاربين الأميركيين، الذين خدما بالقرب من مسقط رأسها. وتقول: «لا يمكنني حتى أن أتخيل حجم التعاطف الذي يكنّه هؤلاء (لاري وأصدقاؤه) لنا نحن أطفال الحرب. لديّ شعور لا يوصف لأن أحدهم تذكّرنا، وجاء إلى هنا للاطمئنان علينا».

علاج وهدايا

أما دليل لاري، السيد «ثي»، فقد كان في الثامنة فقط عندما التقط بوب الصور التاريخية، ويقول: «كنت في المدرسة عندما أتى الأميركيون لتقديم العلاج والهدايا، لقد كانوا طيبين وكرماء جداً». ويضيف أن «الحياة كانت صعبة حينها، وكانت القنابل تتساقط بكثافة، وأصوات المدافع لا تسكت بشكل يومي». ويكشف أن والديه وعمه قتلوا، وبقي هو على قيد الحياة. ومثل بقية الأطفال في الصور، عمل «ثي»، الأب لولدين، في الزراعة ومجال الإنشاءات، ولم تتحسن حياته كثيراً منذ نهاية الحرب، ويقول: «الحياة لاتزال صعبة»، ويقول المزارع: «انتهت الحرب في 1975 وانتهى معها القتل والجوع، أما اليوم فنحن لسنا أحراراً، وحقوق الإنسان غير محترمة». وأصبح «ثي» متخصصاً في تتبع أطفال الحرب من خلال صور بوب، ويضيف «لقد تذكرت الكثير من الأشياء، وأنا سعيد ليس فقط بسبب عودة بوب إلينا، ولكن لرغبته بمعرفة المزيد عنا وعما آلت إليه أوضاعنا». قد يكون ذلك غريباً بالنظر إلى الدعوات والتظاهرات المكثفة التي عمت مدناً أميركية مطالبة بوقف الحرب، مع ارتفاع الحملات الصحافية لما نشرت وسائل إعلام أميركية من ممارسات بشعة ولاإنسانية عامل بها الجيش الأميركي المواطنين الفيتناميين العزّل.


مصالحة مع الماضي

http://media.emaratalyoum.com/images/polopoly-inline-images/2015/03/276304.jpg

لاري جونز (جالس) وبعض قدامى المحاربين منهم ديل هيسترمان (يسار).  أرشيفية

كان الجنود الأميركيون العائدون من فيتنام يقابَلون باحتجاجات عارمة. وكان يقال لهم: «مشاركتكم في حرب فيتنام كانت بمثابة انتحار اجتماعي»، وفقاً لأحد قدامى المحاربين الأميركيين، ويدعى ديل هيسترمان، الذي يبلغ من العمر حالياً 69 عاماً، والذي خدم بين أغسطس 1968 وأكتوبر 1969، ويقول: «تعرضنا نحن الجنود للّوم والتوبيخ بسبب قرارات اتخذها السياسيون. لقد كان الأمر في غاية الصعوبة».

وشهد ديل مقتل زميله جيف ورأى أجزاء بشرية تتطاير في كل مكان.

وبعد عقود من الحادث عانى ديل الضغوط والمشكلات النفسية ما بعد الصدمات، وكان يستيقظ في الليل فزعاً بسبب الكوابيس ومشاهد الحرب القاسية.

وعاد الجندي السابق مع لاري، شقيق جيف، وآخرين إلى فيتنام، أخيراً، ليرى بلداً مختلفاً تماماً عن فيتنام التي حارب فيها.

أما رود، وهو جندي أميركي سابق، فيقول: «زيارتي لفيتنام بعد مرور كل هذا الوقت أعطاني شعوراً بالارتياح».

وباستخدام وسائل التقنية الحديثة، بما في ذلك الخرائط العسكرية والـ«جي بي إس» تمكن لاري من تحديد مكان الحادث الذي قتل فيه شقيقه جيف، وقام بدفن صندوق مملوء بالأوسمة والذكريات.

ويقول لاري: «هناك الكثير من الإثارة والدموع»، عندما التقى بأهالي قرية «شون ثان»، وأضاف أنها «التجربة الأكثر غرابة في حياتي».


خسائر الحرب

http://media.emaratalyoum.com/images/polopoly-inline-images/2015/03/276312.jpeg

أطفال في معسكر أميركي.   أرشيفية

خسائر الفيتناميين خلال سنوات الحرب الثماني:

• مليونا قتيل.

• ثلاثة ملايين جريح.

• 12 مليون لاجئ.

أما الأميركيون فقدّرت خسائرهم بنحو:

• 57 ألف قتيل.

• 153 ألفاً و303 جرحى.

• 587 أسيراً بين مدني وعسكري، وقد تم إطلاق سراحهم.

تويتر