2.5 مليون يعيشون في الخارج بمعدل هجرة يتزايد 4% سنوياً

فرنسيون يفضلون «المنفى الاختياري»

صورة

على بعد 40 كيلومتراً من بروكسل، يعيش بيار إدوارد برفقة زوجته أماندين ستيرين وأطفالهما الثلاثة، في الريف البلجيكي الجميل. اختارت العائلة الفرنسية الانتقال إلى بلجيكا قبل عامين، بعد الانتخابات الرئاسية مباشرة. ولا يعتبر إدوارد (40 عاماً)، حالة استثنائية، فعدد الفرنسيين الذين يهاجرون بات في تزايد خصوصاً بين فئة الشباب الذين يبدون قلقهم إزاء مستقبل بلدهم الاقتصادي. ففي حين يفضل فرنسيون بلدانا مجاورة اختار آخرون أميركا الشمالية وأستراليا وآسيا وحتى إفريقيا. وحقق إدوارد نجاحاً كبيراً في مجال الأعمال إذ أطلق شركات صغيرة عدة في بلده، لكنه اضطر لبيع شركته الأخيرة لشركة عالمية، بعد أن ساهم بشكل فعال في تنشيط سوق العمل على مدى 15 عاماً بتشغيله نحو 1200 عامل.

وفضل إدوارد إطلاق مشروعه الجديد في بلجيكا واختار هذه المرة تجارة العطور، ويقول «لم أترك بلدي بسبب الضرائب العادية التي كنت أدفعها ولكن بسبب الضريبة على الممتلكات والتي لا تطبق هنا في بلجيكا». ومثل بقية الفرنسيين الذين اختاروا «المنفى» تقول عائلته إن خروجها من فرنسا كان بسبب «التحرش الإداري» والرقابة والمتابعة القضائية، وغيرها من المتاعب اليومية. ويضيف إدوارد «منذ العام الأول من إطلاقي لشركتي سمارت بوكس في 2004 وجدت نفسي في المحكمة». واستمرت القضية قرابة عام كامل تكبد فيها صاحب الشركة خسائر مادية إضافة إلى مصاريف المحاماة. ويرجع سبب المتابعة القضائية لاتهام إدوار بالنشاط خارج مجال رخصته التجارية، إذ كان يوفر خدمات السفر إضافة إلى بيع الهدايا، ويقول إنه «ما أن ينجح الواحد منا في عمله الخاص حتى يعتقد الإداريون أن هناك خطأ ما ومخالفة للقانون». وكانت شركته هدفا للتفتيش مرات عدة لأسباب يقول عنها إنها مختلفة وغير مقنعة، «وحتى وإن ثبتت نيتي الحسنة فهذا لن يغير شيئا» كما يؤكد المهاجر الفرنسي.

الهجرة إلى إسرائيل

تقدر الوكالة اليهودية، التي تمتلك أرقاما دقيقة، عدد المتقدمين للهجرة من فرنسا إلى إسرائيل بأكثر من 5000 شخص هذا العام، ليتضاعف الرقم مرتين مقارنة بالعام الماضي. ويوجد في فرنسا ثالث أكبر جالية يهودية في العالم بعد إسرائيل والولايات المتحدة. ولأول مرة منذ 1948، احتلت فرنسا المرتبة الأولى للدول المصدرة للمهاجرين نحو إسرائيل. وتقول واحدة من المتقدمين للهجرة طلبت عدم الكشف عن اسمها، «هاجر شقيقاي إلى تل أبيب، هذا العام، بعد أن كانا يديران شركتان ناجحتان في فرنسا»، وتضيف الفرنسية اليهودية، «الأول أغلق شركته واستقر في إسرائيل بداية العام والثاني غادر الأسبوع الماضي». وتعفي السلطات الإسرائيلية القادمين الجدد من الضرائب وتقدم لهم تسهيلات اجتماعية واقتصادية.

وكانت أماندين، زوجة إدوارد مترددة في الرحيل خارج فرنسا في بداية الأمر، إلا أنها تشعر حالياً بأن الأمورعلى ما يرام وتتحسن يوما بعد يوم. إضافة إلى ذلك تعتبر أماندين أن النظام التعليمي في بلجيكا أقل ضغطاً، كما أن الإيجارات مقبولة ومنخفضة مقارنة ببلدها. أما الخدمات فتراها أفضل بكثير «فالسباكون متوفرون عند الطلب والأطباء يقدمون خدماتهم ويتنقلون إلى المنزل إذا تتطلب الأمر حتى في الليل».

قد لا تعود عائلة إدوارد إلى فرنسا في المستقبل فالكثير من مواطنيهم قرروا المغادرة العام الماضي واختارو «المنفى الاختياري»، وتقول البيانات ان أكثر من 35 ألف فرنسي في سن «العطاء» هاجروا في 2013. وتقول وزارة الخارجية إن 2.5 مليون فرنسي يعيشون في الخارج، وهو رقم يتزايد سنوياً بنسبة 4%، ويعود ذلك، بحسب مراقبين، إلى ارتفاع الضرائب، والعراقيل الإدارية، فضلاً عن ضعف القدرة الشرائية وارتفاع نسبة البطالة. كما غادر عدد من الفرنسيين بسبب مخاوف من «معاداة السامية» والهجمات الإرهابية. وتتعدد أسباب الهجرة وتتداخل أحيانا بالنسبة للكثيرين.

وجهات مختلفة

ويقول مركز «ديلوات» للأبحاث والدراسات، إن 28% من الشباب المهاجر لديهم النية في البقاء طوال حياتهم خارج فرنسا. في حين باتت شريحة المتقاعدين والمسؤولين التنفيذيين ومديري البنوك تختار وجهات مختلفة بدءاً بسويسرا إلى كاليفورنيا. ويضاف إلى قائمة الوجهات المفضلة للفرنسيين، البرتغال التي خرجت منذ فترة قصيرة من أزمة مالية خانقة. ويأمل فرنسيون متقاعدون قضاء بقية حياتهم في منطقة «ألغافر» الهادئة والواقعة جنوب البرتغال التي تستقطب آلاف الفرنسيين الشباب أيضاً.

ومن بين الفرنسيين الذين قرروا الهجرة إلى البرتغال أوليفييه وعائلته. وحتى يناير 2013 كان أوليفييه (39 عاماً)، يدير أعماله بشكل عادي وكانت الأمور تسير على مايرام على الرغم من الأعباء المالية المترتبة عن تشغيل عشرات العمال في مطاعمه الأربعة في وسط باريس. إلى أن فاجأه مفتشون من دوائر مختلفة، ولسوء حظه كانت إحدى النادلات لاتملك تصريحاً للعمل، لأنها التحقت منذ أيام فقط ولم يكن لديه الوقت لاستكمال إجراءات توظيفها. وبعد أشهر من الواقعة يتذكر أوليفييه الواقعة جيداً، ويقول «جاؤوا عند ذروة العمل وتعاملوا معي كأني خارج عن القانون في الوقت الذي خاطرت بفتح وظائف للعاطلين عن العمل». ودفع صاحب المطاعم خمسة آلاف يورو غرامة وبدأ حينها البحث عن «منفى». واختارت العائلة لشبونة من دون ترتيب مسبق. واليوم يعمل في مطعمه الفرنسي «لاباريزيان» في العاصمة البرتغالية ويجني أرباحاً معقولة. كما استأجر شقة واسعة بسعر يقول إنه نصف الذي يدفعه في باريس.

ويقول خبراء في علم الاجتماع، إن ظاهرة الهجرة ليست غريبة فالكثير من مواطني دول متقدمة يعشون خارج بلدانهم. وبالنظر إلى تزايد الأعداد كل عام فإن الركود الاقتصادي قد يكون السبب الرئيس وراء هجرة الشباب الفرنسي. ونفت الحكومة العام الماضي وجود «منفى ضريبي» (هروب الفرنسيين من الضريبة إلى الخارج)، لكن خبراء يقولون إن المسؤولين الفرنسيين يهونون من المشكلة، ويضيفون أن عدد الأشخاص الذين فضلوا «المنفى الاختياري» يثير القلق ويستدعي انتباه السلطات. وتضرر القطاع العقاري كثيراً في السنوات الأخيرة كما أن الجيل الجديد من الشباب ليس لديه الصبر ولا يريد أن يبقى رهينة التجاذبات الحزبية.

في غضون ذلك ارتفعت طلبات التسجيل في المدارس الفرنسية في لندن وبروكسل بشكل كبير، في إشارة إلى هجرة المزيد من العائلات. في المقابل ارتفع عدد العائلات الفرنسية التي عرضت منازلها للبيع في فرنسا، فضلاً عن إغلاق الكثير من المحلات والشركات الصغيرة. كما عرضت محلات تقدم خدمات مثل التجميل والحلاقة للبيع بسبب تراجع في عدد الزبائن. ويؤكد صاحب مكتب «سوثبيز انترناشيونل ريلتي»، فرانك سيلفير، إنه خلال العامين الماضيين سجل المكتب مغادرة العديد من العائلات للبلاد. فقد رحلت عائلات ميسورة مباشرة بعد الانتخابات 2012 التي فاز فيها الاشتراكي فرانسوا هولاند، واليوم جاء دور الشباب وهم في الغالب أصحاب أعمال، إذ يغلق هؤلاء شركاتهم في فرنسا ويذهبون إلى بلدا أخرى لمزاولة عملهم.

ويقول سيلفير، «قابلت ثماني عائلات قررت الهجرة سوية إلى البرتغال.» ويروي أنه شاهد في بداية أكتوبر، ست شاحنات كبيرة ترحل عائلات من باريس إلى لندن وبروكسل. وبحسب مكتب يقدم خدمات النقل البري في باريس، فإن المكتب يتلقى طلبات بشكل يومي من أشخاص وعائلات متجهة إلى خارج فرنسا. والعام الماضي كان عدد الطلبات أربعة يوميا، بحسب هذا المكتب الذي يعمل في هذا المجال منذ سنوات طويلة، ويبدو أنه حقق أرباحاً كبيرة خلال العامين الماضين بسبب زيادة الطلب على النقل البري. وحتى متوسطي الدخل من الطبقة العاملة الفرنسية تفضل الهجرة، ويقول رب عائلة قررت الهجرة، «ذهابنا إلى مالطا سوف يوفر لنا 10 آلاف يورو من الضرائب سنوياً وسنتمكن من العيش بتكلفة أقل بكثير من باريس». وكانت العائلة قررت بيع شقتها في باريس قبل الرحيل.


آثار سلبية على المجتمع

http://media.emaratalyoum.com/images/polopoly-inline-images/2014/10/211166.jpg

 أوليفييه مع أطفاله في البرتغال. أرشيفية

من المتوقع أن يصدر تقرير مضاد عن الهجرة في الوقت الذي تساءل فيه سياسيون إن كان ما يحدث «نزوحاً كثيفاً أم مجرد أوهام». وارتفعت نسبة المتقاعدين المغادرين 10% بين 2011 و2013. واستقبلت بلجيكا نحو 100 ألف فرنسي خلال عامين. في المقابل، يبحث 80% من الخريجين عن فرص عمل خارج بلدهم. وينوي أصحاب أعمال كبار تحويل أعمالهم إلى الخارج، لكن التعقيدات الإدارية والمالية تحول دون بلوغ هذا الهدف. ويبقى الأمر أسهل على أصحاب الشركات الصغيرة والموظفين والخريجين الجدد. وفضّل العديد من صغار الخبراء التوجه إلى هونغ كونغ وبوسطن، نظراً للفرص الكثيرة المتوافرة هناك. وعلى الرغم من وعد الحكومة بخفض الضريبة بحلول 2015، إلا أن آثارها على المجتمع الفرنسي تبدو سلبية للغاية.

تويتر