غلاة التطرّف يضطهدون النساء علناً وسط تواطؤ رسمي

الـ «حريديم».. صداع مزمن في رأس المجتمع الإسرائيلي

صورة

تقطن طائفة الـ«حريديم» اليهودية المتطرفة، في ضاحية «ميا شيارديم» بالقدس، ولا يعرف بعض من أفرادها الكثير عن شؤون الحياة اليومية خارج نطاق مجتمعهم، إذ لا يستطيعون حتى فتح حساب بنكي أو استئجار شقة، ويحصلون على الأخبار من خلال الملصقات التي تنتشر في أحيائهم، بدلا من الراديو والتلفزيون، الممنوع استخدامهما داخل الطائفة.

حقائق

العام الماضي، كان بعض الـ«حريديم» يسعون لإغلاق طريق يمر وسط القدس، كل سبت، في محاولة منهم لفرض إيقاف حركة السيارات في هذا اليوم الذي يعتبره اليهود يوم راحة، ويقذفون السائقين بالحجارة، وتسبب ذلك في انتقاد حاد للشرطة التي لم تستطع السيطرة عليهم.

في ،2009 نظم الارثوذكس المتطرفون احتجاجات اسبوعية، ضد خطط لفتح موقف سيارات يوم السبت، والذي يخشون أنه سيجلب أعداداً كبيرة من السياح، وكان سلاحهم ضد الشرطة هو «حفاضات» الاطفال المتسخة، التي يجلبونها من منازلهم، وأوقفت البلدية جمع القمامة بناء على ذلك.

في الوقت الذي يتجمع فيه الاسرائيليون، للاحتفال باليوم الوطني للدولة العبرية، تحرق طائفة «ناطوري كارتا» المناهضة للصهيونية العلم الاسرائيلي، إذ تعتقد هذه المجموعة أنه لا يحق لليهود إعلان دولتهم الخاصة بهم، إلا بعد مجيء المسيح.

تهديد

هبط الظلام على منطقة «ميا شيارديم»، أكثر ضواحي القدس التزاما بأصول الدين، رجال يتشحون بالسواد ويعتمرون قبعات، يسارعون الخطى عبر الشوارع الضيقة التي تحيط بها منازل مبنية على طراز القرون الوسطى، وعلى بعد أقل من نصف ميل يحتشد الشباب الإسرائيليون داخل الحانات الكائنة وسط القدس، ما تعتبره هذه الطائفة أمرا محرما دينيا، وتحاول هذه الطائفة الابتعاد عن مباهج الحياة الدنيا، والالتزام بالفصل بين الرجال والنساء.

هذا الالتزام الصارم بالقيم الدينية، ومحاولات هذه الطائفة نشر تعاليمها بين الإسرائيليين العاديين، تعد في رأي الكثيرين من أكبر المهددات للمجتمع الإسرائيلي العلماني، وأكبر المخاطر على القيم الديمقراطية، التي تدّعي إسرائيل الالتزام بها.

مغالاة في التطرف

أواخر العام الماضي، وعندما كانت تانيا روزنبلت (28 عاما)، تستقل الحافلة من أشدود إلى القدس، تسببت في مشكلة كبيرة بعد رفضها الاستجابة لطلب أحد الركاب المتدينين، والذي طلب منها الجلوس في مؤخرة الحافلة، إذ يعتقد الـ«حريديم» أن الاحتشام الديني يفرض على النساء عدم الجلوس في مقدمة الحافلة مع الرجال، ومن الأمور العادية في هذه المنطقة، أن تجد حافلات مزدحمة بالنساء في المؤخرة، بينما المقدمة المخصصة للرجال خالية تقريبا إلا من بعض الرجال.

اكتسبت روزنبلت شهرة على نطاق مجتمعها الضيق في إسرائيل، إلا أن موقفها ذاك جلب عليها النقمة، من تلك الطائفة التي هددتها بالقتل بسبب تحديها المجتمع الديني.

تقول روزنبلت إن «الـ(حريديم) يتلقون معاملة خاصة في هذه الدولة، ويعتقد المواطنون أن الأمر على ما يرام»، وتضيف «إلا أن هناك اشياء كثيرة تغيرت، ويعتقدون أن باستطاعتهم السيطرة على البلاد، إنه أمر مزعج».

وتعتقد هذه الطائفة أن باستطاعتها فرض تعاليمها على المجتمع الإسرائيلي، ولهذا السبب بدأت في السنوات الأخيرة الخروج عن نطاقها التقليدي الضيق، في القدس وتل أبيـب، واقـتناء مـنازل رخيصة.

وتمثل هذه الطائفة، والتي تتعرض للهجوم مرارا وتكرارا، 10٪ من سكان إسرائيل، وهي من المجتمعات الفقيرة سريعة التكاثر، والتي ينظر إليها بقية الاسرائـيليين على أنها من الفئات المستهلكة غير المنتجة، وتزداد المخاوف في الوقت الراهن من أن نفوذ الـ«حريديم» بدأ يمتد ألى ما وراء مجتمعاتهم الشبيهة بـ«الغيتو».

وقبل فترة قصيرة لجأت طائفة من الـ«حريديم»، أشد غلوا وتعيش في «ميا شيريم»، إلى وضع نجمة صفراء على أطفالها، والتي ترمز للاضطهاد الذي تعرض له اليهود في المحرقة (الهولوكوست)، الأمر الذي أثار اشمئزاز الكثير من السكان. ويقول بعض الشباب في «ميا شيريم»، إن الطائفة التي اثارت مثل هذه الكراهية أقلية متطرفة ولا تمثل الـ«حريديم» ككل.

يقول امين مكتبة دينية في المنطقة «أعتقد ان الاحتشام في الحافلات أمر مطلوب، لكن ليس مطلوبا فرضه بالقوة».

كراهية غير المحتشمات

إلا أن التعايش الديني لا يطاق في هذه الضاحية المغلقة، فقبل لحظات مر أحد الـ«حريديم» بكاتبة هذا المقال الصحافي وبصق على الأرض أمامها، ناعتا إياها بعبارة «عاهرة» في اللغة العبرية، على الرغم من ارتدائها ملابس محتشمة.

وفي حالة أخرى، وصل الأمر إلى ذروته في منطقة بيت شماش في ضواحي القدس، عندما بصق أحد الـ«حريديم»، في وجه فتاة في الثامنة من عمرها، وتلفظ عليها بألفاظ غير لائقة، بسبب ارتدائها ـ على ما يعتقده ـ ملابس غير محتشمة.

وتقول مؤسسة منتدى «كوليتش للسيدات المتدينات» حنا كيهات، والتي نشأت في «ميا شيريم»، إن «نساء هذه الطائفة يخشين الاحتجاج على وضعهن، وإذا أرادت النساء الخروج عن المألوف يتعرضن للعزل من قبل المتطرفين الذين يذيعون بين الناس أنهن غير متدينات بما فيه الكفاية، ويعتدون عليهن، ويتقولون بأشياء غير لائقة عن عائلاتهن». وتضيف «إنها حالة من الرعب». ويمثل الفصل بين الجنسين في الحافلات جزءا ضئيلا من القصة، ففي التجنيد الإجباري بالجيش، ويلعب فيه الـ«حريديم» الآن دورا صغيرا، لكنه مرموق، يقاطع الذكور الـ«حريديم» المناسبات العسكرية، التي تغني فيها النساء، مصرين على أنها «إثم مبين».

سطوة

نائب وزير الصحة الإسرائيلي، يعقوب ليتزمان، والذي يعتبر من اليهود المتطرفين، غادر قبل فترة قصيرة احتفالا أقامه احد المستشفيات، لأن إحدى المغنيات كانت ضمن برنامج الحفل، كما تم في يناير الماضي حظر مشاركة النساء في حلقة نقاشية عن الخصوبة، نظمتها مجموعة طبية دينية. حتى الشركات العلمانية أذعنت للضغوط التي تمارسها هذه الطائفة، بعدم عرض أي وجه أنثوي في لوحات الإعلانات، التي تنتشر في مدينة القدس، خوفا من مقاطعة هذه الطائفة منتجاتها. وفي المدارس الابتدائية، تكافح مجموعات من أولياء الأمور جهود هذه الطائفة، والتي تصر على تقليص المواد العلمانية، وتعزل الطلاب عن الطالبات حتى وهم في سن الخامسة.

ويقول المدير التنفيذي لمجموعة الارثوذكس الليبراليين المسماة «بنعيماني توراه فيافودا» شمويل شاتاش، إن الفصل بين الجنسين في المدارس الدينية الحكومية صار أكثر تشددا في الآونة الاخيرة، ويتذكر كيف ان مدير مدرسة ابنته كان يطلب من الآباء عدم حضور العروض التمثيلية التي تقدمها فتيات في الثامنة أو التاسعة من أعمارهن، ويضيف ان قوانين الاحتشام تصبح اكثر تشددا عاما بعد الاخر، إذ تصدر التعليمات للفتيات بارتداء تنانير دون الركبة وبلوزات بأكمام طويلة. ويقول شاتاش «أفضل الاحتشام، وعدم ارتداء النساء ملابس مستفزة، لكن من الغباء ان نطلب من فتاة في سن الخامسة ان تفعل ذلك»، كما يعتقد أنه من الضروري ان يمتزج الجنسان في تلك السن، وإلا فإن ابنه سيرى الفتيات في ما بعد عبارة عن «شيطان»، ويصف الرجال، الذين يرفضون الجلوس خلف النساء في الحافلات، بالجهل والخوف.

تواطؤ رسمي

وإلى حد بعيد، فإن وزير التعليم الاسرائيلي متورط في عزل التلميذات عن التلاميذ، مفضلا الإذعان لرغبات هذا النظام الديني المتطرف، إذ يستبعد المنهج التعليمي، لمدارس الـ«حريديم» الخاصة، المواد الأساسية، مثل الرياضيات واللغة الإنجليزية لمصلحة تدريس التوراة، هذا المنهج التعليمي الفقير يمنع الكثير من الـ«حريديم» من الانضمام إلى القوى العاملة في إسرائيل، ما يعني أن الجميع يكرسون حياتهم للدراسات الدينية، التي تمولها الدولة العبرية، بينما لا تستطيع النساء ـ اللاتي تفرض عليهن تقاليد الطائفة إنجاب اكثر من 10 اطفال ـ الالتحاق بأي وظيفة. ويعتقد أحد المنظمين لاحتجاج على فصل الجنسين في الحافلات، عالون فيسر، أن «المشكلة تبدأ من الحكومة، وأن السياسيين يصلون إلى حلول وسط على حسابنا».وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو يصر على أنه يحق للمرأة الجلوس في أي مكان شاءت، إلا ان السياسيين المتطرفين (ممثلين في حزبين سياسيين يمينيين)، يلعبون دور «صانعي الملوك» في الائتلافات الحكومية الاسرائيلية المتعاقبة، ويسير السياسيون بحذر شديد، خوفا من إثارة غضب المجتمعات الدينية.

والآن، أصبحت خطوط المعركة واضحة تماما يقودها تيار رئيس إسرائيلي يدعو الى الاصلاح، وهو التيار نفسه الذي يدعو إلى الحفاظ على القيم الديمقراطية ووضع حد للمتطرفين الدينيين، الا ان مديرة صندوق «إسرائيل الجديدة»، راتشيل ليل، يحدوها أمل ضئيل بإصلاح الوضع في المستقبل القريب، مؤكدة ان القطاع العريض من النساء يتأثر باستمرار بالمناخ الرجعي في إسرائيل، إذ يقترح السياسيون إصدار تشريعات وقوانين مناهضة للديمقراطية، من ضمنها جهود لتكميم الإعلام، والسيطرة على السلطة التشريعية، والامتناع عن تمويل المنظمات غير الحكومية التي تنتقد الدولة. تقول ليل «نشاهد أمامنا العرب (في ربيعهم) يجاهدون لأجل الديمقراطية، بينما تعود إسرائيل القهقري»، وتضيف «نتراجع من ديمقراطية نابضة إلى شيء سيئ».

تويتر