رقعة غضب المهمّشين تتسع.. ولا حلّ حاسماً لمشكلاتهم في الأفق

«تسكين» آلام الجماهير الغاضبة لن يعالج «الصداع» التونسي

صورة

تمكّنت السلطات التونسية من التعامل مع التظاهرات الشبابية السلمية والاحتجاجات العنيفة التي شملت مجموعة من المدن والأحياء الفقيرة في العاصمة، بعد الإعلان عن زيادات في الضرائب والأسعار، وفقاً لقانون المالية الجديد، لكن عودة الهدوء إلى الشارع التونسي قد تكون مؤقتة، إذا لم تنجح السلطات في إيجاد حلول جذرية للمشكلات التي أدت إلى غضب الشباب، الذي يُلوّح منذ 7 أعوام بـ«ثورة ثانية» تطيح بالنخب السياسية الجديدة، التي يتهمها بالفشل في تحقيق الأهداف الرئيسة لانتفاضته الاجتماعية، التي تطورت في يناير 2011 إلى ثورة سياسية تسببت في تغيير في أعلى رأس هرم الدولة، وفي تفجير ما سُمي بثورات الربيع العربي.

فإلى أين تسير تونس بعد سبع أعوام من إسقاط الرئيس زين العابدين بن علي؟ وهل تنجح الأطراف التي فجّرت هذه المواجهات الجديدة مع قوات الأمن، في إنجاز ما تُطلق عليه «ثورة ثانية»؟ أم يحدث العكس وتتسبب أحداث العنف التي رافقتها، في إقناع التونسيين بأولوية الأمن على مطالب الإصلاح والتغيير والشعارات الثورية؟

وإذا سلّمنا جدلاً بأنّ ما وقع في يناير 2011 كان ثورة شبابية اجتماعية سياسية، وليس مجرد انقلاب داخل مؤسسات النظام دعمته الإدارة الأميركية؛ فهل يُمكن القول إن هناك تغييراً جوهرياً قد يحدث للنظام السياسي الحالي في ظل تلقيه دعماً دولياً لأسباب عدة، من بينها: رهان عواصم غربية عدة على إنجاح تجربة «الاستثناء التونسي في الانتقال الديمقراطي»؟

الانفصال عن الشباب

اعترف قادة النقابات والأحزاب، من خلال تصريحاتهم، بأن المشكلات

التي تواجهها الحكومة الحالية هيكلية موروثة منذ عقود، حيث رجّحوا

خطاباً سياسياً واقعياً يأخذ بعين الاعتبار المستجدات الحالية

على الساحتين الإقليمية والدولية، لاسيما تراجع اقتناع صناع القرار

في واشنطن وأوروبا بخيار تشجيع شعوب الدول العربية

والإسلامية على الثورات والتغيير الشامل لأنظمتها السياسية.

يرى بعض المعارضين للحكومة، وعلى رأسهم زعماء المعارضة اليسارية والقومية والبعثية المنخرطين في تجمع «الجبهة الشعبية»، بزعامة حمة الهمامي وزياد الأخضر، أن تصاعد التظاهرات ضد الحكومات التي تحكم تونس منذ يناير 2011، «دليل على عجز تلك الحكومات عن تحقيق أهداف الثورة، وعلى رأسها: الشغل، والكرامة، والتحرر من إملاءات صندوق النقد الدولي، ومن أجندات اللوبيات المالية المتورطة في الفساد والتهريب، وفرض سياسة رأسمالية»، وهو ما تم ذكره في مؤتمرهم الصحافي المنعقد في يناير 2018.

ويتفق هؤلاء المعارضون مع المنظمات الشبابية والطلابية اليسارية في اتهام الائتلاف الحاكم الحالي بالقطيعة مع الشباب، ومع الطبقتين الفقيرة والوسطى، اللتين تضررتا كثيراً من تدهور القدرة الشرائية للعائلة التونسية لأسباب هيكلية، تستوجب، في نظرهم، تغييرات عميقة تتجاوز الحلول السطحية والإجراءات المؤقتة.

وتكشف بعض تصريحات القيادات اليسارية الشبابية، ونواب في البرلمان التونسي من هذا التكتل السياسي المعارض، مثل الجيلاني الهمامي، وعمار عمروسية، وعدنان الحاجي، تفهمهم للجوء الشباب العاطل إلى العنف ومهاجمة قوات الأمن ورموز الدولة، إذ يرون أن إسقاط رأس النظام عام 2011 كان ينبغي أن تعقبه تحركات، لإنجاز ثورة جديدة تكريساً لمقولات اليسار الماركسي اللينيني وتروتسكي عن «الثورة المستمرة» و«التغيير الراديكالي».

اتهامات عدة

أصبحت شعارات «الثورة المستمرة» التي ترفعها مجموعات شبابية يسارية وأطراف سياسية راديكالية تنتمي إلى الجبهة الشعبية وحزب العمال الشيوعي؛ تُستخدم من قبل خصومهم في الائتلاف الحاكم، لتوجيه اتهامات خطيرة لها من بينها «التحالف مع المخربين والمهربين والفاسدين»، والترويج لمواقف «التيار الفوضوي».

وفي هذا السياق، وجّه رئيس الحكومة يوسف الشاهد انتقادات غير مسبوقة للمعارضة اليسارية والقومية والبعثية المنخرطة في «الجبهة الشعبية»، واتهمها بتقديم تغطية سياسية للمهربين وللفاسدين، الذين اعتقلت السلطات بعض زعمائهم خلال الأشهر الماضية، وأحالتهم إلى المحاكم. وحمّل يوسف الشاهد مسؤولية الهجمات الليلية على المؤسسات الحكومية والبنكية والتجارية العمومية، والخاصة إلى هؤلاء المتهمين بالفساد والتهريب.

ضمن هذا الإطار، يتهم رئيس الحكومة ووزراء من أحزاب مختلفة نواب المعارضة في البرلمان بازدواجية الخطاب، حيث صوّتوا لمصلحة قانون المالية وموازنة العام الجديد، ثم أصبحوا يدعون الشباب العاطل عن العمل إلى التظاهر ضده، من أجل إسقاطه، لأنه يُشكِّل عبئاً ماليّاً على الفقراء والطبقة الوسطى.

المبادرة الرئاسية

وسط توتر الأوضاع والاتهامات المتبادلة بين الحكومة والمعارضة تُطرح مجموعة من الأسئلة أهمها، ما آليات الخروج من المأزق الحالي؟ هل ستنجح الحملات الأمنية التي أدت إلى اعتقال مئات الشباب المتهم بالعنف في إخماد التظاهرات؟ أم ستؤدي إلى تأجيجها بعد أن تحرك حقوقيون، ونشطاء، وطلاب، في مظاهرات خاصة للمطالبة بالإفراج عنهم؟ وإذا نجحت الحكومة في الحصول على دعم سياسي نسبي من نقابات العمال ورجال الأعمال والمزارعين وأكبر الأحزاب، فهل سيستمر هذا الدعم إذا ما انفجرت الاحتجاجات الشبابية والاجتماعية مجدداً، وتطورت إلى إضرابات واعتصامات تتبناها بعض النقابات؟

وفي هذا السياق، بادر رئيس الجمهورية، محمد الباجي قائد السبسي، بعقد لقاء في قصر الرئاسة بقرطاج، مع زعماء النقابات والأحزاب المشاركة في الائتلاف الحكومي، وفتح معها حواراً علنياً جديداً، حول مقترحاتها لامتصاص غضب الشباب والمتظاهرين.

وكشفت تصريحات النقابيين والسياسيين الذين شاركوا في الحوار، عن وجود حرص منهم على انتهاج أسلوب براغماتي، وذلك باعترافهم بشرعية المطالب الاجتماعية والاقتصادية للمحتجين مع رفض العنف، واقتراح إجراءات عاجلة للإصلاح من بينها: رفع رواتب صغار الموظفين والمتقاعدين، والمنح الاجتماعية التي تمنحها الدولة للعائلات الفقيرة.

التأثيرات الدولية

اعترف قادة النقابات والأحزاب من خلال تصريحاتهم بأن المشكلات التي تواجهها الحكومة الحالية هيكلية موروثة منذ عقود؛ حيث رجّحوا خطاباً سياسياً واقعياً يأخذ بعين الاعتبار المستجدات الحالية على الساحتين الإقليمية والدولية، لاسيما تراجع اقتناع صناع القرار في واشنطن وأوروبا بخيار تشجيع شعوب الدول العربية والإسلامية على الثورات والتغيير الشامل لأنظمتها السياسية. وهو ما يؤكده عالم الاجتماع والمحلل السياسي التونسي، المنصف وناس، إذ يرى أن الفشل السياسي والأمني الذي سُجّل في أغلب الدول العربية التي شملتها ما سمي بثورات الربيع العربي، أقنع حكام العواصم الغربية بالتراجع عن خياراتهم، خصوصاً عندما قاموا في عام 2010 بتشجيع مسار انتقال ديمقراطي غير مدروس، وثورات ليس لديها زعماء، ولا تمتلك برامج محددة، فكانت الحصيلة إقحام بلدان كاملة، مثل ليبيا وسورية واليمن، في فوضى شاملة.

ويدفع هذا إلى ضرورة التفكير في الأسئلة التالية: هل يعني هذا خسارة أنصار التغيير السياسي للورقة الدولية، التي كانت حاسمة في ثورات 2011 نهائياً؟ وهل فقد اليسار النقابي والاشتراكي التونسي ورقة الدعم الإقليمية والعالمية، في معاركه من أجل الإطاحة بخصومه الليبراليين والإسلاميين؟

دعوات التغيير

تستند الاحتجاجات الحالية إلى دعم وتأييد بعض الشخصيات السياسية والبرلمانية، حيث أعلنت البرلمانية اليسارية القومية، مباركة البراهمي، أرملة المعارض محمد البراهمي الذي تسبب اغتياله في يوليو 2013 في الإطاحة بحكومة حركة النهضة الإسلامية وشركائها، في مؤتمر صحافي، أنها تؤمن بأن المعارضة التي تدعم الاحتجاجات الاجتماعية ستكون قادرة على تحقيق أهدافها في التغيير، مثلما نجحت قبل أربعة أعوام، عندما كانت توصف بكونها معارضة «صفر فاصل» للتقليل من قيمتها.

وصرّحت البراهمي، بالاتفاق مع نواب عن اليسار الراديكالي، مثل: المنجي الرحوي وأحمد الصديق وزياد الأخضر، بتنظيم مزيد من مظاهرات الغضب ضد الحكومة وضد قانون المالية، حتى تحقيق أهدافها السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

ويبدو أن بعض أعضاء الحكومة يرون أن مثل هذه التصريحات لا تلاقي دعماً شعبياً، مثل الوزير سمير الطيب، زعيم حزب المسار، وريث الحزب الشيوعي التونسي السابق، أو إياد الدهماني، الناطق الرسمي باسم الحكومة، والمهدي بن غربية وزير العلاقة مع المؤسسات الدستورية. إذ أصر هؤلاء في تصريحات هجومية شنوها على خصومهم الراديكاليين، على أن تونس 2013 تختلف عن تونس 2018، كما أوضحوا أن «انتفاضة 2010 كانت ضد نظام استبدادي غير ديمقراطي، بينما تستهدف أعمال العنف اليوم رئيساً منتخباً وبرلماناً منتخباً وحكومة منتخبة».

الوساطة المدنية

في ظل وجود فريقين يدعو أولهما إلى إشعال فتيل ثورة ثانية، ويدعم الفريق الآخر حكومة الوحدة الوطنية، ومقررات البرلمان التونسي بما فيها قانون المالية الجديد؛ تبرز تحركات عدة في الكواليس، لوساطات يقوم بها عدد من زعماء الأحزاب والنقابات، حيث دعا رفيق عبدالسلام، وزير الخارجية السابق، إلى وقف أعمال العنف التي سجلت في الاحتجاجات الليلية، واعتبر أن تعقيدات الملفات السياسية والاقتصادية في تونس، أكبر من أن يحتكر معالجتها طرف سياسي أو حزبي واحد.

مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة

قيادات المجتمع المدني

يراهن كثير من السياسيين في تونس على أن تكون الكلمة الفصل مجدداً لقيادات المجتمع المدني وزعاماته، التي تلعب دور الوساطة بين الحكومة وشركائها السياسيين، والمعارضة الراديكالية، حتى تظل كل الأوضاع تحت السيطرة، ولا يفلت زمام الأمور من بين أيدي السلطات المنتخبة في مرحلة تزداد الأوضاع الأمنية والسياسية تعقيداً في ليبيا، التي كانت تُعتبر المتنفس الاقتصادي الرئيس لتونس طيلة العقود الماضية، وتحولت حالياً إلى مصدر قلق كبير بالنسبة لساستها على اختلاف انتماءاتهم، بعد أن انتشر العنف والإرهاب في أغلب مدنها.

تويتر