بسبب الهيكلية المتعددة للسلطة

الاحتجاجات الإيرانية تكشف عن التشققات في نظام الحكم

صورة

قبل نحوأسبوعين، كان المحللون السياسيون يُطرون على طهران لنجاح سياستها الخارجية في سورية، ولبنان والعراق، وقطر، ويشيرون إليها باعتبارها القوة العظمى الجديدة في الشرق الأوسط. لكن الأسبوع الماضي شهد انكشاف الهشاشة المتأصلة في النظام السياسي الإيراني، بفضل اندلاع التظاهرات العفوية المناوئة للنظام في شتى أنحاء الدولة، والتي نجم عنها حتى الآن مقتل 20 شخصاً على الأقل.

الحركة الخضراء

بخلاف الحركة الخضراء، التي ظهرت عام 2009، والتي كانت تعارض في ذلك العام انتخاب رئيس متشدد، فإن الحركة الحالية أكثر تبلوراً في شخصيتها ومضمونها. وهدفها هو النظام بالمعنى العريض للكلمة، وليس أي شخصية أو حدث معين. وبخلاف عام 2009، أيضاً، عندما كانت الحركة تتألف من الطبقة الوسطى بصورة أساسية، وتركزت في المراكز المدنية الكبيرة، فإنها هذه المرة تتركز حول سكان الطبقة العاملة في المدن الصغيرة، والبلدات البعيدة عن العاصمة. وإضافة إلى ذلك ليست لديها قيادة موحدة، حتى لو رمزية، كما كانت الحال عام 2009.


لا يعرف ما إذا كانت التظاهرات، المتفجرة في أنحاء مختلفة من الدولة، يمكنها أن تتضامن مع بعضها بعضاً، وتتحول إلى تحدٍّ متماسك للنظام. وفي الوقت الحاضر يبدو ذلك غير محتمل، لكن الكثير من التطورات يعتمد على رد الحكومة على هذا التحدي.

ودفعت هذه الاحتجاجات المراقبين الخارجيين إلى حالة من الارتباك. بيد أنها لم تكن مفاجئة للمراقبين للمشهد الإيراني عن قرب، إذ إن المصاعب الاقتصادية، والتضخم الكبير مقروناً بالركود الاقتصادي والمعدل المرتفع للبطالة، خصوصاً بين فئة الشباب، التي واجهتها فئات كبيرة من الشعب الإيراني، وتجاوزت المناطق الريفية والحضرية، كانت مؤشرات واضحة إلى أن الاضطرابات واقعة بلا ريب.

وارتفع مستوى التوقعات بتحسن الاقتصاد الإيراني بصورة كبيرة، إثر الاتفاق النووي الإيراني مع مجموعة الدول 5 1، والرفع الجزئي للعقوبات الاقتصادية المتعلقة بالبرنامج النووي الإيراني. والحجة الرئيسة، التي تبرر بها حكومة الرئيس الإيراني حسن روحاني قبول الاتفاقية النووية، التي تخلت فيها إيران عن سعيها للحصول على السلاح النووي، هي إزالة جميع القيود الاقتصادية والمالية المفروضة عليها، ما سيسمح لإيران بالنمو إلى معدل كبير، الأمر الذي سيفضي إلى تحسن كبير في مستوى معيشة المواطن الإيراني العادي. لكن هذه التوقعات ذهبت أدراج الرياح، بفضل إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، التي تباطأت كثيراً في رفع العقوبات، إضافة إلى فرض مزيد من العقوبات الأميركية ليست لها علاقة بالقضية النووية، والتهديد بفرض عقوبات أميركية على الشركات الأوروبية التي ستدخل في شراكات اقتصادية مع طهران. وفي حقيقة الأمر، ونتيجة عوامل عدة، ارتفع معدل البطالة بين الشبان، إذ تعدى 40%، كما أصبح الوضع المعيشي في إيران أسوأ مما كان عليه عشية توقيع الاتفاق النووي. وما زاد الطين بلة، هو رفض الرئيس ترامب، في أكتوبر الماضي، المصادقة على الاتفاق النووي، الأمر الذي أثار توقعات بحدوث انهيار شامل في المنظور القريب.

وأسهم الفساد المستشري في البلاد، والذي يرجع إلى وجود العديد من الكيانات والمنظمات المرتبطة بالنظام الإيراني، إلى جعل الأمور أكثر سوءاً. واصطدمت محاولة الرئيس تقليل الفساد بمعارضة صلبة من جهات لها مصالح مكتسبة، بما فيها مؤسسات قامت ببناء إمبراطوريات اقتصادية، استناداً إلى قربها من أحد مراكز السلطة المتعددة في إيران، والمعروفة بصورة جماعية «المؤسسة».

وأصبحت ألوية الحرس الثوري، التي تم إنشاؤها بداية كميليشيات تهدف إلى الدفاع عن المثل العليا للثورة الإسلامية، لاعباً اقتصادياً رئيساً، إذ تسيطر على نحو 20% من اقتصاد الدولة، وذلك من خلال تكتل «ختم الأنبياء» الصناعي. وكانت الشكاوى الرئيسة، التي أطلقها المحتجون تتعلق بحجم الأموال المخصصة لمؤسسات رجال الدين، والمؤسسات المتفرعة عن الحرس الثوري في الميزانية العامة للسنة الجديدة، والتي كشف عنها أنصار الرئيس روحاني على ما يبدو، في الوقت الذي يكافح الشعب الإيراني من أجل سد الرمق.

ونتيجة تشكل المؤسسة الإيرانية من رؤوس متعددة، أدى ذلك إلى حدوث مشكلات جمة بالنسبة لطهران، إضافة إلى الأزمات الاقتصادية. ولم تؤدِ الهيكلية المتعددة الرؤوس في السلطة الإيرانية، إلى تسهيل تشكيل قطاع ضخم مدعوم من الدولة في الاقتصاد الإيراني فحسب، وإنما إلى حدوث شلل في آلية صناعة السياسة، بالنظر إلى الخلافات الرئيسة بين المكونات المتنوعة لآلية الحكم في الدولة.

وكان ينظر إلى النظام الهجين في إيران، حيث توجد كلمتا «الإسلامي» و«الجمهوري» في اسم الدولة، على أنه اقتران بمؤسسات دينية مثل الحرس الثوري وجمعية عامة للخبراء، مع رئيس، وبرلمان منتخبين. ويتم اتخاذ القرارات استناداً إلى قاعدة الإجماع والاتفاق بين المؤسسات الدينية والمنتخبة. وهناك أيضاً القائد الأعلى للثورة الإسلامية علي خامنئي، الذي يعتبر أهم رجل دين في الدولة، والذي يعتبر الحكم النهائي في حال حدوث خلاف بين الطرفين السابقين أيضاً. وفي حقيقة الأمر كان زعيم الثورة الإيرانية آية الله الخميني قد أنشأ ما يعرف بـ«مجلس تشخيص مصلحة النظام»، لحل الخلافات الناجمة بين المؤسسات المختلفة. وظل هذا النظام يعمل طيلة بقاء الخميني حياً. لكن خلفه آية الله علي خامنئي، أصبح يميل إلى دعم المؤسسات الدينية، وعمل معظم الوقت بصورة متحيزة، ولم يكن حكماً نزيهاً.

ونجم عن ذلك ظهور نتيجتين: الأولى، هي المؤسسات الدينية المدعومة من القائد الأعلى للثورة، الذي طالما عارض قرارات اتخذت من قبل المؤسسات المنتخبة، والتي لم يكن يحبها. وكانت الحالة كذلك عندما تكون حكومة وبرلمان إصلاحيان في السلطة، وهو الأمر الذي حدث خلال حكم الرئيس محمد خاتمي. والثانية، نتيجة تزايد سلطات المؤسسات الدينية القسرية على الدولة بدعم من القائد الأعلى، إذ بدأت تتدخل في العملية الانتخابية، كما حدث عام 2009، عندما فرضوا مرشحهم على الشعب الإيراني. وإضافة إلى كل ذلك، فإن هذه التركيبة المتعددة للسلطة تعني أنه في الوقت الذي تستطيع فيه المؤسسات الدينية أن تنسب لنفسها كل ما هو صحيح وناجح في أمور الدولة، فإن المؤسسات المنتخبة، خصوصاً الرئيس، أصبحت تتحمل اللوم عن كل الأخطاء التي تحدث. وكان ظهور المزيد من مراكز السلطة، خصوصاً الحرس الثوري، قد زاد إرباك سلطات صنع القرار. وعمل الحرس الثوري دائماً كمراقب على النزاعات، التي تظهر على السطح بين الليبراليين من أعضاء البرلمان. وإضافة إلى ذلك فإن الحرس الثوري له مصالحه التي يريد أن يحميها، وكما كانت حال الجيش الإنكشاري في نهاية عهد الدولة العثمانية، فإنه يقوم بالمناورات من أجل الحفاظ على مصالحه، على حساب مصالح الدولة. وفي واقع الأمر فإن الحرس الثوري كان ينفذ سياسات خارجية وأمنية خاصة به، تتناقض في معظم الأحيان مع أهداف الحكومة المنتخبة.

ويبدو أن هذه العيوب، التي أصبحت في ما بعد نظاماً سياسياً مختل الفاعلية، قد بدأت تظهر نتائجها الآن. وأصبحت الانقسامات غير المسؤولة مصدر خراب وأذى للنظام السياسي، في غياب الأحزاب السياسية المنظمة والمعترف بها. وكانت تقارير المتشددين المنتقدة لحكومة روحاني هي التي أثارت الاضطرابات الحالية في معقل المحافظين بمدينة مشهد، لتشويه سمعة الرئيس عن طريق الاستفادة من سخط الإيرانيين العاديين من الوضع الاقتصادي.

ولكنّ أمرين حدثا بسرعة نجم عنهما تغيير طبيعة الاحتجاجات: الأول، الحركة التي تحولت إلى إدانة واسعة للنظام، والتي تضمنت شعارات مناهضة لخامنئي، والتي تم رفعها إلى جانب تلك المناهضة لروحاني. وفي الحال أصبحت الدعوات المنادية بـ«الموت للدكتاتور» أي خامنئي، وتدمير «النظام» هي المحفز الرئيس للحركة الاحتجاجية. والأمر الثاني، امتداد الاضطرابات كالنار في الهشيم إلى مدن كثيرة، بما فيها مدينة كرمنشاه، التي تقطنها الأغلبية الكردية، في الشمال الغربي للدولة، والتي تبعد 700 ميل عن مشهد. وبدأ الساخطون من الأقليات الكردية والبلوش، سريعاً، يطلقون شعارات ضد النظام، تظهر مدى الظلم الذي يعيشونه.

وثمة نقطة أخيرة، تتعلق بالحركة الحالية للاضطرابات، وهي أن المحتجين رفعوا شعارات ضد تورط إيران في سورية، ولبنان، والعراق، واليمن، وفي أماكن أخرى، وهو الأمر الذي يعتبرونه نزفاً لموارد الدولة، التي يجب إنفاقها على تحسين الوضع الاقتصادي للشعب الإيراني. وبناء عليه، فإن هذه الاحتجاجات تمثل رفضاً للكثير من النجاحات الاستراتيجية، التي حققتها إيران أخيراً في المنطقة.

ومن غير المعروف ما إذا كانت التظاهرات، المتفجرة في أنحاء مختلفة من الدولة، يمكنها أن تتضامن مع بعضها بعضاً، وتتحول إلى تحدٍّ متماسك للنظام. وفي الوقت الحاضر يبدو ذلك غير محتمل، لكن الكثير من التطورات تعتمد على رد الحكومة على هذا التحدي. وإذا رد النظام بوحشية قاسية، فإن ذلك سيقدم للحركة العديد من الشهداء، لكن في الوقت ذاته مزيداً من الإصرار على إطاحة النظام. وهذا ما حدث في الفترة بين 1978، و1979، عندما قام شاه إيران بقمع التظاهرات بوحشية، الأمر الذي دفع كل الشعب الإيراني ضده، بما فيهم قوات الأمن، وعندما رفض هؤلاء إطلاق النار على بني جلدتهم من الايرانيين انهار النظام كبيت من ورق.

من ناحية أخرى، إذا تعاملت الحكومة مع الوضع بهدوء وحصافة، كما يريد روحاني، فإن غضب المتظاهرين ربما يهدأ، كي يظهر مرة أخرى بعد بضع سنوات مقبلة.

محمد أيوب من مركز السياسة العالمي في واشنطن العاصمة

تويتر