يعيش وَهْم الإمبراطورية

أردوغان يتعصب لإرث الدولة العثمانية

صورة

يهيمن على سياسات وتوجهات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان «حلم إحياء الإمبراطورية العثمانية»، وعلى الرغم من نفيه سابقاً، في مراحل مبكرة من صعوده السياسي، رغبته في إعادة تأسيس الدولة العثمانية، إلا أن خطاباته العصبية الحادة في الآونة الأخيرة، وسياساته العدائية تجاه المعارضة، ودول الجوار والقوى الدولية، تكشف عن رغبة مُلحة لشغل مكانة «السلطان الجديد»، على حد تعبير بعض الأكاديميين الأتراك، وهو ما يرتبط بعمليات تفكيك وإعادة هيكلة الهوية التركية، وتبني مظاهر وتجليات الإرث العثماني، وسياسات الهيمنة، والتوسع الإقليمي، لإعادة إنتاج عهد «الاستعمار العثماني» في منطقة الشرق الأوسط.


إحياء العثمانية

يتضح تَعَصُّب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للعثمانية القديمة، ومحاولاته إحياء مظاهر الدولة العثمانية في ثوب جديد، محاولاً صبغها بصبغة دينية في كثير من الأحيان، وهو ما يمكن إيضاحه من خلال عدد من المؤشرات، وذلك فيما يلي:

خطاب الهيمنة

يرجع «التعصب العثماني» لدى أردوغان إلى تفاعل عدد من العوامل التي يرجع بعضها إلى طبيعة تنشئته السياسية والنسق العقدي له، الذي يتسم بالتطرف القومي وطموحه السياسي.


السياسات العدائية

يُرجّح أن تتصاعد السياسات العدائية التي يتبناها أردوغان في مواجهة الدول العربية، نتيجة هيمنة «التعصب العثماني» على نسقه العقدي ورؤيته للعالم، وهو ما يدفعه إلى محاولة الهيمنة على الشرق الأوسط، والسعي لإعادة إحياء «الإمبراطورية العثمانية»، والتدخل العنيف في الشؤون الداخلية لدول الجوار، وإحكام الاستبداد السياسي داخليّاً، ودعم التيارات الدينية المتطرفة على امتداد الإقليم.

يستخدم أردوغان في معظم خطبه السياسية مصطلح «نحن أحفاد العثمانيين»، للتأكيد على توجهاته العثمانية، ومحاولاته إحياء إرث الدولة العثمانية عن طريق التمدد السياسي والجغرافي، بما في ذلك إقليم الشرق الأوسط الذي يتصوره أردوغان أحد الأقاليم التابعة لتركيا، بحكم التبعية التاريخية للدولة العثمانية. كما يرى أردوغان أيضاً أن هناك عدداً من دول أوربا، تُعد امتداداً للوجود التاريخي العثماني في أوروبا في الماضي. فعقب حصول حزب العدالة والتنمية على أغلبية المقاعد في الانتخابات البرلمانية في عام 2011، قال أردوغان محتفياً بانتصار حزبه في خطاب أمام حشد من أنصاره: «بقدر ما انتصرت إسطنبول انتصرت سراييفو، وبقدر ما انتصرت أزمير انتصرت بيروت، وبقدر ما انتصرت أنقرة انتصرت دمشق، وبقدر ما انتصرت ديار بكر انتصرت رام الله، ونابلس وجنين، والضفة الغربية، والقدس وغزة، وبقدر ما انتصرت تركيا انتصر الشرق الأوسط، والقوقاز والبلقان وأوروبا»، وهو ما يعبر عن نزعات التوسع الاستعماري لدى أردوغان.

التعليم الديني الإلزامي

تعد عودة التعليم الديني الإلزامي في المدارس الأساسية التركية، محاولة من أردوغان لإعادة الإرث العثماني، حيث قررت وزارة التعليم في تركيا فرض تدريس مناهج التعليم الديني الإلزامي في المدارس الأساسية، بناءً على قرار من الحكومة التركية.

الرموز السياسية

تقدم نواب حزب العدالة والتنمية في يناير 2015 بمشروع يطالبون فيه باعتماد شعار الدولة العثمانية «الطغراء»، كشعار رسمي للدولة التركية، والذي كان قد تم إلغاؤه عام 1922 بعد سقوط الخلافة العثمانية، وقد وافقت لجنة الشؤون الدستورية بمجلس الأمة التركي الكبير على هذا المقترح، على الرغم من اعتراض نواب المعارضة.

التراث المعماري

يسعى أردوغان لإعادة إحياء الإرث التاريخي والمعماري للدولة العثمانية، فعلى سبيل المثال أعلن أردوغان في يوليو 2016 رغبته في إعادة بناء بعض الثكنات العسكرية في إسطنبول، وهدم مركز أتاتورك الثقافي، وصرّح نصّاً: «سنبني ثكنات ملائمة من الناحية التاريخية في تقسيم، شاءوا أم أبوا»، وذلك على الرغم من معارضة العديد من المواطنين الأتراك.

كما أطلق على أكبر جسر معلق على البوسفور في إسطنبول اسم السلطان «سليم الأول»، وذلك في أغسطس 2016، على الرغم من المعارضة الكبيرة للعلويين الشيعة في تركيا، بسبب العداء التاريخي بين السلطان سليم الأول والشيعة.

المراسم الرسمية

يحرص أردوغان على استخدام الرموز التي تشير إلى الدولة العثمانية في كل تفاصيل حياته اليومية. فعلى سبيل المثال، ظهر في صورة قام بنشرها على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر» في نوفمبر 2017 وهو يضع أمامه راية الفرقة 57 الخاصة بالجيش العثماني.

كما ظهر في أكثر من مناسبة رسمية وخلفه جنود يرتدون ثياب محاربين عثمانيين، يحملون إعلام 16 دولة أسسها العثمانيون خلال استقباله رئيس أذربيجان «إلهام علييف» في يناير 2015، وقد أضيف هذا البند إلى الاستعراضات الرسمية بشكل دائم، وقد قامت نائبة من نواب حزب العدالة والتنمية عن مدينة «باليكسير» بنشر صورة يظهر فيها أردوغان محاطاً بالجنود، وعلقت عليها: «انتهى الفاصل الإعلاني للخلافة العثمانية الذي استمر 90 عاماً».

الصلاحيات الرئاسية

أدت التعديلات الدستورية، وتحول النظام السياسي التركي من برلماني إلى رئاسي، إلى زيادة الصلاحيات الممنوحة لأردوغان، على غرار الصلاحيات التي يتمتع بها الملوك والسلاطين، وقد علّق المفكر التركي المقرب من نظام أردوغان، عبدالرحمن ديليباك، بالقول إن تحول تركيا إلى النظام الرئاسي سيتيح لها أن تتحول إلى دولة الخلافة، ويصبح أردوغان خليفة للمسلمين، وسيفتح مكاتب تمثيل للخلافة العثمانية الإسلامية في قصره.

تدريس اللغة العثمانية

اعتمد أردوغان تدريس اللغة العثمانية في المدارس، وأعلن في ديسمبر 2014 أن «تدريس اللغة العثمانية أمر سيتم لا محالة، شاء من شاء وأبى من أبى»، كما هاجم من يعارضون هذه الخطوة، ووصفهم بأنهم الخطر الأكبر، ورأى أن ذلك يحمي هوية الدولة إلى قيام الساعة، وذلك على حد تعبيره.

دعم المسلسلات التاريخية

يدعم أردوغان المسلسلات والأفلام التركية التي تستعرض أحداثًا تعود إلى فترة العثمانيين، ومن مظاهر هذا الدعم قيامه بزيارة كواليس مسلسل «قيامة أرطغرل»، الذي يتناول تاريخ مؤسسي الدولة العثمانية، وذلك في نوفمبر 2016.

توثيق الأرشيف العثماني

ركزت وسائل الإعلام التركية على قيام أردوغان بتبني مشروع لتوثيق الأرشيف العثماني «الطابو»، الذي يتردد أنه يحتوي على ما يراوح بين 63 و77 ألف وثيقة توثّق أملاك الأتراك في الموصل، وكركوك، وحلب السورية، وفقاً للادعاءات التي تتردد في خطاب بعض السياسيين الأتراك. وبناءً على هذا طالب أردوغان في أكتوبر 2016 بتعديل اتفاقية لوزان المبرمة عام 1923، التي على إثرها تمت تسوية حدود تركيا الحالية.

وفي هذا السياق، حرص بعض نواب وأعضاء من حزب العدالة والتنمية على التأكيد أكثر من مرة على تبعية الموصل العراقية وحلب السورية للدولة العثمانية، وضرورة حمايتهما باعتبارهما جزءاً من الدولة العثمانية، على حد زعمهم.

أبعاد «عصبية أردوغان»

يرجع «التعصب العثماني» لدى أردوغان إلى تفاعل عدد من العوامل التي يرجع بعضها إلى طبيعة تنشئته السياسية، والنسق العَقَدي له الذي يتسم بالتطرف القومي وطموحه السياسي، وسعيه لاستبعاد وتحجيم معارضيه، ونزعات الانتقام والثأر ممن يصنفهم ضمن طائفة «الأعداء»، إضافة إلى نزعات الاستعمار والهيمنة الإقليمية، وتتمثل أهم هذه العوامل فيما يلي:

التنشئة السياسية

تأثر أردوغان بشدة بالتنشئة الاجتماعية والسياسية التي تعرض لها، إذ تخرج في مدارس «إمام خطيب» الإسلامية الدينية، وكانت بداية عمله السياسي ضمن التيار الديني في تركيا، الذي كان يمثله آنذاك نجم الدين أربكان، حيث كان عضواً فاعلاً في حزب «السلامة الوطنية»، ثم حزب «الرفاه والفضيلة»، اللذين شكلهما أربكان، وتمكن من الفوز برئاسة بلدية إسطنبول ممثلاً لـ«حزب الرفاه».

وتعرض أردوغان للسجن بتهمة الكراهية الدينية، والمنع من العمل في الوظائف الحكومية عام 1998، بسبب اقتباس أبيات من شاعر تركي، تصف المساجد بثكنات الجنود والمآذن بالحراب، كما قصد أردوغان حينها وصف أنصاره بأنهم «جيش مقدس يحرس الدين»، ويكشف ذلك عن اعتياد أردوغان على التوظيف السياسي للدين منذ مراحل التنشئة المبكرة، لحشد التأييد السياسي لمصلحته.

التطرف القومي

تهيمن على النسق العقدي لأردوغان اتجاهات شديدة التطرف في ما يتعلق بالهوية التركية، حيث يكشف تتبع خطابات أردوغان عن رؤية استعلائية للعالم، تهيمن عليها اعتقادات جامدة حول أفضلية تركيا، استناداً إلى التاريخ العثماني الذي يعتبره الأساس الأهم للهوية التركية.

وعلى نقيض التقييمات السائدة في بعض الأدبيات العربية حول سياسات أردوغان، التي تعتبره يركز على إحياء الهوية الإسلامية لكثرة توظيفه مفهوم «الأمة» في خطابه السياسي، فإن «القومية التركية» بالمفهوم العثماني هي المهيمنة حقّاً على عقيدة أردوغان ورؤيته للعالم، وهي المحرك الأساسي لسياساته الإقليمية.

عقيدة الثأر

يعتبر الرئيس التركي التمسك بالعثمانية، وإعادة إحياء تجلياتها، نوعاً من الثأر الشخصي من «أعداء» الدولة التركية وفق رؤيته، وتتوجه سياسات الثأر لدى أردوغان إلى ثلاث طوائف من «الأعداء»، على حد اعتقاده، هي: التيارات، والنخب العلمانية، ومؤسسات الدولة التي تعارض توجهاته السياسية وتعوق مشروعه العثماني، والفئة الثانية هي القوى الإقليمية التي يعتبرها أردوغان منافساً للهيمنة التركية، كونها تطرح مشروعاً إقليميّاً مناوئاً للرؤية العثمانية، وأخيراً القوى الدولية التي يسعى أردوغان للانتقام منها، بسبب تسببها تاريخيّاً في سقوط الدولة العثمانية، ورسم حدودها الحالية.

وتنعكس هذه التصورات في خطابات أردوغان العدائية ضد الدول الأوروبية، وتركيزه على الصراعات التاريخية بين الدولة العثمانية والدول الأوروبية، وادعائه تمثيل العالم الإسلامي في خطاباته السياسية، استناداً إلى الإرث الاستعماري للإمبراطورية العثمانية.

شرعية الوراثة

يسعى أردوغان، من خلال تمسكه بالمبادئ العثمانية وتعصُبه للدولة العثمانية، وتاريخها ورموزها، إلى أن يبعث برسالة ضمنية، مفادها أنه الوريث الشرعي للخلافة العثمانية، وهو ما قامت وسائل الإعلام التابعة لحزب العدالة والتنمية بالتأكيد عليه مراراً، فعلى سبيل المثال قامت هذه الصحف بوضع صورة أردوغان بجوار صورة السلطان عبدالحميد الثاني، الذي يعد واحداً من أقوى السلاطين العثمانيين.

الاستبداد السياسي

يوظف أردوغان الإرث العثماني كأداة قمعية في مواجهة المعارضة السياسية، إذ يسعى لطرح أيديولوجيا مغايرة للعلمانية الكمالية، من خلال استدعاء التاريخ وتنفيذ عملية إعادة هندسة اجتماعية للشعب التركي، لإعادة غرس القيم والممارسات العثمانية ضمن الذاكرة الجمعية، وهو ما يكفل له تحقيق الهيمنة السياسية، وإقصاء المعارضين باعتباره ضمن طائفة «السلاطين العثمانيين»، الذين لم يكن مصطلح «المعارضة» وارداً في قاموس مفردات إدارتهم للدولة. ويخلط خطاب أردوغان في هذا الصدد بين توظيف أطروحات «المستبد العادل» ووصم المعارضة بالخيانة والعمالة والعداء لمصالح الشعب التركي وفق منظوره.

نزعات الاستعمار

يرى أردوغان أن إرث العثمانيين يعطي الدولة التركية حقّاً تاريخيّاً في الهيمنة الإقليمية، وتمثيل العالم الإسلامي في مواجهة الغرب، ويعتبر أردوغان أن تدخله في شؤون الدول العربية، ونشره قوات عسكرية في سورية والعراق، ودعمه للتنظيمات الدينية المتطرفة في الدول العربية، ضمن تجليات «السياسة الإمبراطورية»، التي تدعم رؤيته للدور التركي في الشرق الأوسط، التي يمكن اعتبارها مرادفاً للاستعمار بالمفهوم التقليدي.

سياسات الهيمنة العثمانية:

انعكس تعصب أردوغان للعثمانية على سياساته الداخلية والإقليمية والدولية، وهو ما يتجلى فيما يلي:

قمع المعارضة

يتبع أردوغان السياسات نفسها التي كان يتبعها بعض حكام وملوك الدولة العثمانية من إقصاء للمعارضين، فعلى سبيل المثال، قام بالقبض على عدد كبير من المعارضين، بعد محاولة الانقلاب العسكري الفاشل في يوليو 2016، وتضمنت حملة الملاحقات السياسية تسريح العديد من الموظفين وضباط الشرطة والجيش، وإعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، والهيمنة على القضاء، والسيطرة الكاملة على كل مفاصل الدولة، بحيث أضحى أردوغان ممثلاً لجميع السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية.

التوسع الإقليمي

انتهج أردوغان سياسات النفوذ والتوسع الإقليمي من خلال التدخل المستمر في شؤون دول الإقليم، حيث لا تخلو خطاباته السياسية من طرح رؤى حول السياسات الداخلية لدول الجوار، تُعد بمثابة انتهاك للسيادة، فضلاً عن المفردات شديدة العدائية التي يتبناها ضد من يعتبرهم «خصوماً إقليميين» لهيمنة تركيا.

ولا يقتصر التوسع الإقليمي على الخطابات الحماسية، إذ قامت تركيا بدعم التيارات الدينية المتطرفة في عدد كبير من دول المنطقة، ووفرت لهم المأوى والاستضافة والدعم المالي والمنصات الإعلامية التي تروج لأفكارهم، ولا ينفصل ذلك عن دور تركيا في دعم التنظيمات الإرهابية في سورية، من خلال السماح بتسلل المقاتلين والتمويل والأسلحة عبر الحدود.

وفي السياق ذاته، قامت تركيا بالتدخل العسكري المباشر في سورية والعراق، كما تقيم تركيا عدداً من القواعد العسكرية في دول مختلفة، منها: قطر، وشمال قبرص، وسورية، وأذربيجان التي قامت فيها ببناء أول قاعدة عسكرية لها في نوفمبر 2017، كما تعتزم بناء ثماني قواعد عسكرية أخرى.

الانكشاريون الجدد

اتجه أردوغان إلى تأسيس جماعات مؤيدة له، على غرار ما قام به السلطان «أورخان الأول» من تأسيس «الانكشاريين»، التي تعني «الجيش الجديد»، وذلك لعدم ثقته بالجيش الموجود في ذلك الوقت، فعلى سبيل المثال، أفادت بعض التسريبات التي تداولتها وسائل الإعلام التركية، وقام بنشرها «فؤاد أفني»، المعروف بلقب «سنودن تركيا»، في يناير 2017، بأن شركة «سادات» للخدمات الدفاعية - التي أسسها عدنان تانريفردي مستشار أردوغان - تقوم بتدريب شبان من حزب العدالة والتنمية على القتال.

وكان البرلمان التركي قد حقق، قبل تعيين تانريفردي مستشاراً للرئيس، في الاتهامات الموجهة إلى هذه الشركة بالقيام بأعمال شغب وفوضى في المناطق الكردية، إضافة إلى تدريبها عناصر تابعة لـ«داعش»، كما أصدرت مديرية الشؤون الدينية التركية قراراً يقضي بإنشاء فروع للشباب في 1500 مسجد، على أن تصل إلى 20 ألف مسجد بحلول 2021، وهو ما يثير تخوف البعض من أن تتحول هذه الفروع إلى ما يشبه «ميليشيات المساجد».

تويتر