الدرس الإسباني يحمل كثيراً من المرارة

أسباب عدة أفشلت حصول كتالونيا على استقلالها

صورة

تعد أزمة استقلال إقليم كتالونيا واحدةً من أكثر الأزمات التي واجهت إسبانيا استعصاء منذ عقود، أي منذ انتهاء حكم الديكتاتور الإسباني الجنرال «فرانسيسكو فرانكو» تقريباً، خصوصاً بعد أن واصل طرفا الصراع (الحكومة الكتالونية الداعمة للاستقلال، وحكومة مدريد الرافضة له) عمليةَ التصعيد السياسي أخيراً، إلى الدرجة التي دفعت كلا الطرفين إلى نقطة لا تُتيح مساحة كافية للمناورة أو التراجع من أجل تجاوز الأزمة بعد أن أعلنت الجنراليتات (الحكومة المحلية للإقليم) في أكتوبر الماضي قرارها بإعلان الاستقلال بشكل منفرد، وهو ما دفع حكومة مدريد - في المقابل - للتحرك نحو فرض الحكم المباشر على الإقليم، وإصدار قرار توقيف لأعضاء حكومته المحلية، بمن فيهم «كارلوس بوجديمون» رئيس الإقليم.

انتزاع فتيل الأزمة

على الرغم من تحرك أطراف النزاع (الداعمين لاستقلال الإقليم من جانب، وحكومة مدريد من جانب آخر) نحو خطوات تصعيدية في أكتوبر الماضي، والتي يبدو معها أن مسار الأزمة قد بلغ نقطة التأزم؛ فإن هناك مساحات لانتزاع فتيل الأزمة بين الطرفين قد تلوح في الأفق تحت ضغوط تجعل استمرار عملية التصعيد محفوفاً بالمخاطر على مصالح الطرفين. وهنا فإن انتخابات ديسمبر وإن كان من غير من المتوقع أن تقود إلى تغييرات جذرية في شكل إدارة النزاع، فإنها قد تُعطي مساحة للحوار عبر وساطة خارجية محتملة، أخذاً في الاعتبار ما أعلنته إسبانيا أخيراً - على لسان وزير خارجيتها - عن احتمالية إعادة النظر في الدستور الإسباني بما يستوعب الطموحات الكتالونية عبر حلٍّ مُرضٍ للشعب الإسباني ككل.

• رئيس إقليم كتالونيا كارلوس بوجديمون أسهم في توتير التعايش بين الكتلان والدولة الإسبانية.

• مثول قادة الإقليم أمام القضاء، والتداعيات السياسية لحالة عدم استقرار الأوضاع على اقتصاد الإقليم، وبيئة الأعمال فيه، ومن ثمَّ تضرر إسبانيا ككل؛ قد تكون عنصراً ضاغطاً على أطراف الأزمة للجلوس إلى طاولة المفاوضات.

• فيما راهن أنصار انفصال الإقليم على دعم المجتمع الدولي؛ يبدو واضحاً الموقف المناهض الذي عبّرت عنه القوى الكبرى، خصوصاً الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية، وكلاهما اعتبر الأمر مسألة داخلية إسبانية.

خلفية الصراع

عبر تاريخ ربما يمتد إلى نحو 1000 عام، تشارك سكان إقليم كتالونيا تاريخاً مستقلاً، وتحدث أبناؤه لغة مختلفة عن سائر المناطق المحيطة، وبناء على حالة التمايز الهوياتي تلك، فقد مُنح الإقليم استقلالاً مؤقتاً في عام 1932 بعد تأسيس الجمهورية الثانية، لكن مع صعود الديكتاتور الإسباني الجنرال «فرانكو» إلى الحكم، تم إلغاء هذا الاستقلال، وقُمعت أية أنشطة أو ممارسات عامة ذات طابع قومي. وبعد وفاته منح دستور إسبانيا الجديد عام 1978 - في فترة التحول الديمقراطي - الإقليم حكماً ذاتياً، وإن كان الدستور قد أكد - في الوقت ذاته - أن الأمة الإسبانية لا تتجزأ.

ثم كان تطور آخر في مسار علاقة الإقليم بالدولة الأم في عام 2006 بعد مفاوضات طويلة وافقت فيها الحكومة الإسبانية على تحسين وضعية الحكم الذاتي للإقليم بإقرار البرلمان الإسباني ميثاق حكم ذاتي يُعزز سلطات الإقليم، خصوصاً المتعلقة بالشؤون المالية والقضائية، كما يصف الميثاق سكان الإقليم بـ«الأمة». وفي عام 2010 قضت المحكمة الدستورية الإسبانية بإلغاء أجزاء من الميثاق بعد أن ارتأت أن مصطلح «أمة» كوصف للإقليم لا يحمل أية «قيمة قانونية»، وهو ما أعقبته حالة حراك في السنوات الأخيرة، وعمليات تعبئة للقطاعات الداعمة لاستقلال الإقليم، تحت شعارات قومية ومزاعم بضرر اقتصادي واقع على الإقليم من وجوده داخل إسبانيا.

نقطة اللاعودة

منذ عام 2015 وبحيازة القوى المؤيدة للانفصال عن إسبانيا الأغلبيةَ في برلمان كتالونيا؛ عاد الزخم للحديث عن استقلال الإقليم ليأخذ بُعداً جديداً يتجاوز حالة التعبئة التقليدية غير الرسمية التي جرت في السنوات السابقة، بتحرك الحكومة المحلية للإقليم نحو اتخاذ إجراءات سياسية فعلية في سبيل تحقيق هذا الهدف، كان أبرزها إعلان البرلمان الكتالوني في 27 أكتوبر 2017 انفصال الإقليم عن إسبانيا، وهو قرار جاء بعد استفتاء رسمي في بداية الشهر نفسه وافق فيه 90% من المُصوِّتين على الانفصال، فيما اقتربت نسبة المشاركة فيه من 43% من الناخبين المُسجَّلين. وقد كانت تلك الإجراءات مصحوبة بعملية تعبئة جماهيرية بمسيرات دعت إليها حركات داعمة للاستقلال ودعمتها الحكومة.

وفي مقابل تلك التحركات المحلية التي بدت أنها تتخذ طريق اللاعودة، وتغلق طريق المناورة أو التفاوض؛ كانت الحركة - على الجانب الآخر - تحمل سمات تصعيدية وحاسمة مماثلة. وهنا فقد كان قرار المحكمة الدستورية الإسبانية التي أعلنت عدم دستورية الاستفتاء قُبيل إجرائه، وأعلنت تعليقه قبل ساعات من بدء التصويت، وهو ما أعطى - بدوره - الشرطة الإسبانية غطاءً للتدخل اتسم بالعنف من أجل الحيلولة دون وصول الناخبين إلى مراكز الاقتراع، مما خلّف مئات المصابين.

من جانبها، تبنت الحكومة الإسبانية رواية عدم دستورية الاستفتاء وبطلانه. وبعد دقائق من إعلان كتالونيا الانفصال رسمياً، كان قرار مجلس الشيوخ الإسباني باستخدام ما عُرف بـ«الخيار النووي» عبر تفعيل المادة 155 من الدستور، والتي تنقل إدارة الإقليم إلى حكومة مدريد، وتجعله خاضعاً لحكمها بشكل مباشر، ثم كان إصدار مذكرة اعتقال بحق رئيس الإقليم «كارلوس بوجديمون» الذي سافر إلى بلجيكا، فضلاً عن وَضْعِ القيادات السياسية في الإقليم قيد المحاكمة.

أسباب الفشل

عملياً هناك مجموعة من العوامل التي أدت إلى عدم نجاح الإقليم في الحصول على استقلاله، وذلك على النحو التالي:

أولاً: الانقسام الداخلي

تُعد حالة غياب التوافق في الإقليم التي تُظهرها استطلاعات الرأي، وتباين المواقف، سواء على مستوى النخبة أو الجمهور، نحو فكرة الاستقلال كقرار مصيري، عنصراً مهماً في محاولة فهم المشهد في كتالونيا. وهنا فإن كان الداعمون للاستقلال هم الأكثر تنظيماً الآن، فإن هذا لا ينفي حقيقة أنهم ليسوا الأغلبية الساحقة في الإقليم، ولا ينفي كذلك غياب الإجماع داخل نخبتهم حول السبيل الأمثل (تكتيك ناعم أم خشن) لتحقيق الاستقلال المنشود.

وعلى الجانب الجماهيري، ينبغي التذكر بأنه مثلما خرجت مسيرات ضمت مئات آلاف الداعمين لاستقلال الإقليم، فقد كانت هناك تحركات مضادة رافضة لفكرة الاستقلال، وقد نُظمت عمليات تعبئة مماثلة وإن كانت أقل زخماً عبّرت عن فئات تضم مَن يحملون تصورات سياسية مناهضة لفكرة القومية، أو من يتمسكون بروابط كتالونيا مع المجتمع الإسباني، أو من يخشى مخاطر عدم الاستقرار أو التداعيات الاقتصادية السلبية في حالة تحقق الاستقلال فعلياً، بما قد يؤثر على الأوضاع المعيشية للسكان. ويجب عدم إغفال أن نسبة المشاركة في استفتاء الانفصال كاستفتاء مصيري قد مثلت 43%، فيما بلغت نسبة المشاركة في قرار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مثلاً 73% تقريباً.

ثانياً: أهمية الإقليم بالنسبة لإسبانيا

بخلاف القيود الدستورية التي تحول دون استقلال الإقليم، هناك أبعاد أخرى تجعل تخلي إسبانيا عن سيادتها على الإقليم أمراً مستبعداً، أبرزها البُعد الاقتصادي، أخْذاً في الاعتبار حقيقة أن الإقليم الذي يُعد جغرافياً سادس أكبر منطقة في إسبانيا، هو واحد من أغنى الأقاليم الإسبانية، مساهماً بـ25.6% من الصادرات، و19% من إجمالي الناتج المحلي، فيما يضم 20.7% من الاستثمارات الخارجية لإسبانيا، وهو ما يجعله ذا أهمية حيوية بالنسبة لحكومة مدريد، ناهيك بمخاوف أخرى لدى الحكومة الإسبانية من أن يُثير الانفصال نزعات انفصالية في مناطق أخرى من البلاد.

ثالثًا: معارضة القوى الغربية الفاعلة

في الوقت الذي راهن أنصار انفصال الإقليم على دعم المجتمع الدولي؛ يبدو واضحاً الموقف المناهض الذي عبّرت عنه القوى الكبرى، خصوصاً الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية، وكلاهما اعتبر الأمر مسألة داخلية إسبانية. ويُلاحظ المتابع المخاوف الأوروبية من استثارة غضب مدريد التي تُعد لاعباً في الاتحاد الأوروبي، ومخاوف من أن يستثير انفصال الإقليم نوازع انفصالية مماثلة في مناطق أخرى من أوروبا، التي تشهد صعوداً قومياً مقلقاً خلال السنوات الأخيرة. ووفق هذا المنطق يمكن قراءة تصريحات «جان كلود يونكر» (رئيس المفوضية الأوروبية) التي قال فيها: «ليس لدينا الحق في إقحام أنفسنا في هذا الحوار الإسباني - الإسباني»، وأكد فيها أن «الاتحاد الأوروبي ليس بحاجة لانقسام جديد وصدع جديد».

مستقبل الأزمة

وسط لحظة شديدة التعقيد والصعوبة يتسم بها وضع كلا الطرفين المتنازعين، يمكن توقع مسارين للأزمة على النحو التالي:

أولاً: مزيد من التصعيد

أي أن يتجه الطرفان نحو مواصلة الخطوات التصعيدية انطلاقاً مما يملكه كل طرف من أوراق ضاغطة، ومنها لجوء مدريد نحو تفعيل القرار النووي بفرض الحكم المباشر على الإقليم، واتخاذ خطوات اشد وطأة لفرض هذا القرار بالقوة، وسط دعم ضمني تحظى به مدريد من قبل المجتمع الدولي.

وفي المقابل، فإن ما تحدث عنه رئيس الإقليم المُقال حول اعتزامه هو وحلفاؤه مقاومة القرار «ديمقراطياً»، ودعواته بين حين وآخر إلى تظاهرات جماهيرية «للدفاع عن الجمهورية»، قد تعكس نية توظيف سبل المقاومة السلمية كأدوات تصعيدية، مثل: الاحتجاجات، والإضرابات، وتنظيم التجمعات الجماهيرية، وتجديد الدعوات لموظفي الإقليم لعدم اتباع أوامر الحكومة الإسبانية، وهي تحركات على الجانبين قد تزيد الأمر تعقيداً، وتجعل مستقبل الحل مجهولاً.

ثانيًا: إعطاء مساحة للحوار

يرى البعض أن الانتخابات المقرر عقدها في الإقليم في 21 ديسمبر المقبل، قد تكون مساحة لتغيير مسار النزاع بالكامل، غير أن ما قد تُسفر عنه نتائج الانتخابات ربما لا يؤدي إلى تغييرات جذرية في شكل النزاع، وإن كان من الممكن أن يعطي فرصاً أفضل للحوار بين أطرافه، تفضي الى تحسين وضعية الحكم الذاتي في الإقليم كحل وسط.

وهنا ينبغي الإشارة إلى أن أغلب التوقعات حول نتائج تلك الانتخابات تنحصر في ثلاثة احتمالات: أولها تحسين الأغلبية الذين يؤيدون الانفصال، أو انتصار أولئك الذين يرغبون في البقاء في إسبانيا بفارق ضئيل، وهو ما لا يُتيح أيضاً مساحة للفعل السياسي لتغيير جذري في الموقف، أو ألا تختلف نتائج الانتخابات المقبلة عن نتائج وتوازن القوة الحالي في البرلمان الكتالوني، ومن ثم فإن حلحلة الوضع تقتضي من الطرفين (أنصار الاستقلال وحكومة مدريد) تقديم تنازلات سياسية، وفي هذه الحالة تتلاقى هذه النتيجة مع ما ألمح إليه وزير الخارجية الإسباني في تصريحات لهيئة الإذاعة البريطانية في الثامن من نوفمبر الجاري، كشف فيها عن نية البرلمان «استكشاف إمكانية تعديل الدستور لاستيعاب طموحات بعض أفراد الشعب في كتالونيا بطريقة أفضل»، مقراً بأن وضع كتالونيا «يستحق النظر»، لكنه - في الوقت نفسه - أكد أن «القرار الذي سيُتخذ يجب أن يُشارك فيه كل الإسبان».

وهنا تنبغي الإشارة إلى أن مثول قادة الإقليم أمام القضاء، والتداعيات السياسية لحالة عدم استقرار الأوضاع على اقتصاد الإقليم، وبيئة الأعمال فيه، ومن ثمَّ تضرر إسبانيا ككل؛ قد تكون عنصراً ضاغطاً على أطراف الأزمة للجلوس على طاولة المفاوضات، خشية تداعيات الأزمة على الطرفين. وهنا فقد توقع البنك المركزي الإسباني في بداية نوفمبر احتمالية أن يفقد الاقتصاد الإسباني ما يصل إلى 60٪ من نموه المتوقع لإجمالي الناتج المحلي حتى أواخر عام 2019 إذا واصلت أزمة كتالونيا التصاعد، مؤكداً - في الوقت ذاته - أن عودة الأمور إلى طبيعتها سريعاً «يُمكن أن تخفف من حدة المخاطر على الاقتصاد الذي تأثر بنقل الكثير من الشركات والمصارف لمقراتها من الإقليم».

تويتر