الانقسامات في البلاد بدأت تخرج إلى العلن بعد هزيمة «داعش»

غياب العدو المشترك يهدّد بحروب طائفية في العراق

صورة

لم تتم بعد استعادة آخر جيب يحتله تنظيم «داعش» في العراق، حتى بدأت الانقسامات في البلاد تخرج إلى العلن في الوقت الذي بدا فيه أن العدو المشترك يتلاشى. الأسبوع الماضي، وفي الوقت الذي اكتسحت فيه القوات النظامية العراقية، مدعومة من الحشد الشعبي، مدينة كركوك، التي تقع في وسط الأراضي وحقول النفط المتنازع عليها بين بغداد وحكومة إقليم كردستان، أصدرت السفارة الأميركية في بغداد بياناً ذكرت فيه أن «(داعش) يظل العدو الحقيقي للعراق، ونحث جميع الأطراف على الاستمرار في الجهود في تحرير بلادهم من هذا التهديد». وذكر قائد القوات البرية في التحالف اللواء روبرت وايت، الشيء نفسه، عندما قال «نحن نواصل الدعوة إلى الحوار بين السلطات العراقية والكردية، يجب على جميع الأطراف أن تظل مركزة على هزيمة عدونا المشترك (داعش) في العراق». ويمكن تفسير ذلك على هذا النحو «لم نتسلم أي استراتيجية سياسية من واشنطن، لذا يرجى من الجميع، التمسك فقط بخطتنا حتى نستطيع أن نصيغ خطة أخرى».

ترامب مطالب برؤية سياسية إيجابية محددة للشرق الأوسط

النتيجة الحتمية لعدم وجود استراتيجية سياسية هي أن آخرين سيأتون لملء الفراغ الذي سيحدث بعد ذلك ويحددون المستقبل. ولهذا السبب ينبغي على إدارة ترامب أن تضع الآن رؤية سياسية إيجابية محددة لمنطقة الشرق الأوسط، التي من شأنها أن ترافق وتقيد أهداف الإدارة السلبية المناهضة لـ«داعش» وإيران. وفي هذا الوقت، يجب أن يكون الجزء الأساسي من هذه الرؤية هو موقف أميركي بشأن مستقبل المناطق التي يسيطر عليها الأكراد في العراق وسورية.

وبصراحة، لم يحدث ذلك. والنتيجة السخيفة هي أننا الآن أمام قوات عراقية تتضمن ميليشيات شيعية مدعومة من إيران، تستخدم معدات عسكرية صادرة من الولايات المتحدة لدفع بيشمركة إقليم كردستان العراق من كركوك في الأسبوع نفسه، الذي اتهم فيه ترامب وكلاء إيرانيين بتهديد الاستقرار الإقليمي.

نقترب من نجاح عسكري ضد «داعش»، ولكننا فشلنا في إيجاد تعريف لفترة السلام التي ستعقب ذلك، مع غياب المساعي الجادة لتحديد طبيعة تلك الفترة.

منذ غزو العراق في عام 2003، ظلت واشنطن وحلفاؤها متمسكين بالأهداف العملية، من دون أن تكون لديهم أي خطة عما سيحدث تالياً على المسرح السياسي.

ومن المدهش أن نصل إلى هذه النقطة مرة أخرى. ففي الحرب، من المفترض أن تربط الاستراتيجية جميع الإجراءات التنفيذية على أرض الواقع بأهداف سياسية أوسع نطاقاً. ولكن منذ غزو العراق في عام 2003، ظلت الولايات المتحدة وحلفاؤها متمسكين بالأهداف العملية من دون أن تكون لديهم أي خطة عما سيحدث تالياً على المسرح السياسي.

لدينا مراراً وتكراراً، ما نقوله عن «الاستراتيجية السياسية»، التي نعرفها تعريفاً سلبياً دون ايجاد مقابل سياسي إيجابي لها يعكس لنا، ليس فقط ما لا نرغب فيه، بل ما نرغب فيه أيضاً. يمكنك أن «تحرر» العراق أو ليبيا أو سورية من «تهديد» معين، وهذا كل ما تريد، ولكن ماذا بعد ذلك؟

أنا لست هنا لكي أضيع الوقت في تكرار ما حدث في تاريخ الولايات المتحدة من فشل ذريع في التخطيط الاستراتيجي، الذي تمثل في غياب كامل لأي خطة سياسية جادة للعراق بعد الغزو في عام 2003، ونشأ هذا بسبب عدم الكفاءة المريع في الأداء الاستراتيجي للبيت الأبيض، ووزارة الدفاع ومجلس الأمن القومي للدرجة التي لا نستطيع حتى الآن أن نصدق أن هذا حدث بالفعل.

في ليبيا في عام 2011، تمخض فشلنا في التخطيط لما سيأتي بعد سقوط (نظام الزعيم السابق) معمر القذافي عن ظهور الفوضى التي تسبب فيها المتطرفون، والنتيجة هي أن الأمر يبدو وكأن موسكو سوف تسيطر على ما لا يقل عن نصف البلاد من خلال عملائها هناك، وبعبارة أخرى، أصبح من الممكن الآن ظهور دولة تابعة لروسية على عتبة أوروبا، تستطيع التحكم في تدفقات اللاجئين إلى البحر الأبيض المتوسط وإيقافها عندما تريد.

وفي سورية، نجد أن من يسعون لدفع أميركا للتدخل فشلوا في الإجابة عن السؤال الأساسي، الذي يتمثل في كيفية تجنب ما حدث في ليبيا من فوضى إرهابية إذا تمت الإطاحة بالرئيس بشار الأسد، وانتهى الأمر بتسليحالولايات المتحدة للثوار دون صياغة استراتيجية سياسية مصاحبة، والنتيجة، كما نعلم، كانت حملة أميركية فاشلة.

والآن مرة أخرى، فإننا نقترب من نجاح عسكري ضد تنظيم «داعش»، ولكننا فشلنا في ايجاد تعريف لفترة السلام التي ستعقب ذلك، لأنه لم تكن هناك مساعٍ جادة لتحديد طبيعة تلك الفترة. وهذا يحدث بالطبع إذا كنت تركز على هزيمة عدو عسكرياً لكنك في الوقت ذاته لا تأبه بالاستراتيجية السياسية.

وبشيء من الإنصاف، ورثت إدارة الرئيس دونالد ترامب هذه المشكلة، في ورقة نشرها هذا الشهر تحت عنوان «هزيمة دائمة: الحملة لتدمير تنظيم داعش»، كتب وزير الدفاع في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، آشتون كارتر، قائلاً «يتمثل قلقي الرئيس في هذه المرحلة في أن جهود استقرار وحوكمة المجتمع الدولي تتخلف كثيراً عن الحملة العسكرية»، إلا أن كارتر لم يقدم توصية سياسية ملموسة محددة عما تتضمنه تلك «الجهود» عملياً لمرحلة ما بعد طموحنا لـ«استبدال حكم داعش الإرهابي بحكم مستقر وفعال وشرعي». الرئيس السابق، جورج دبليو بوش عبر بطريقة غامضة عن مثل هذه المخاوف حول مرحلة عراق ما بعد الرئيس العراقي السابق، صدام حسين: وهي إحدى العبارات الإنسانية العامة المستخدمة للتعبير عن الغياب الكامل للاستراتيجية السياسة الفعلية «المهمة اكتملت».

وتتمثل إحدى الحجج المضادة في أن الولايات المتحدة يجب ألا تمارس السياسة في المنطقة، وإنما تسمح للاعبين المحليين بتشكيل مستقبلهم الخاص بهم. وبطبيعة الحال، فإن الواقع يقول إن هذه ليست حالة مباشرة لتقرير المصير، ولكنه موقف سياسي تترك فيه أميركا قوى خارجية لتحديد مصير العراق وسورية، وعلى وجه الخصوص إيران وروسيا.

في العراق، هناك معركة تلوح في الأفق داخل المجموعات السياسية ذات الأغلبية الشيعية في العراق، وتحتدم هذه المعركة بين معسكر قومي وآخر تابع لإيران، وتتوزع الميليشيات الشيعية، التي يتشكل منها معظم عناصر الأمن الداخلي، بين الفريقين الاثنين. ويبدو أن رغبة أميركا في حفاظها على ما تبقى لها من نفوذ قليل على الشيعة العراقيين يعكس ترددها في دعمها السيادة الكردية الكاملة. وإذا ما دعمت أميركا الأكراد، فإن ذلك من شأنه أن يثير غضب بغداد وربما دفعها قريباً جداً من طهران. ومع ذلك، فقد ثبت أن الأكراد حليف شبه علماني تثق به الولايات المتحدة، منذ أن فرضت واشنطن حمايتها على الإقليم من بطش صدام بعد حرب الخليج عام 1991، وبعد أن لعب الإقليم دوراً رئيساً في الحرب ضد «داعش»، ومن المعقول أن نعتقد بأن حكومة إقليم كردستان، بعد أن خذلتها واشنطن في مسعاها الأخير للاستقلال، ستتجه الآن لتقترب من موسكو. تجدر الإشارة الى أن شركة النفط الروسية المملوكة للدولة، روزنيفت أقامت موقعاً لها في كردستان العراق قبل الاستفتاء على استقلالها الشهر الماضي.

وبطبيعة الحال، فإن السيادة الكردية ستستفز تركيا بشكل كبير، ولكن في مرحلة ما، يتعين على واشنطن أن تقرر ما إذا كان من المناسب أن تمارس ما يراه البعض نوعاً من الديكتاتورية في حلف شمال الأطلسي (ناتو) من أجل الحفاظ على الديمقراطية، ومن شأن دعم الأكراد في العراق، وربما في سورية أيضاً، أن يبعث بإشارة قوية إلى أنقرة بأنها لا تستطيع أن تحظى بدعم واشنطن من دون مقابل.

وتمثل هذه خيارات صعبة بالنسبة لنا، ولا توجد إجابات بسيطة، وإنما نوع من المفاضلة. لكن الاستراتيجية في الواقع التاريخي لم تكن مثل ما هو ماثل أمامنا، والمشكلة تتمثل في أن واشنطن لم تلتزم بأي من هذه الخيارات، ومن ثم فإن لاعبين آخرين يحددون التسوية السلمية على الأرض. إذا كان هذا هو الواقع وأن خطة الولايات المتحدة تتمثل في التراجع دون الاكتراث بالمكتسبات والخسائر، فليكن الأمر كما ذهبت اليه الولايات المتحدة. وإذا كان الأمر كذلك، ينبغي أن يكون ذلك واضحاً، وأن تضع الولايات المتحدة في حسبانها المخاطر الناجمة عن ترك الأمور السياسية على عواهنها وفصلها عن سياسة الشرق الأوسط.

ومع ذلك، يبدو لي أن هذه ليست الخطة، في الواقع، وبدلاً من ذلك، يبدو أن التركيز أولاً على تحقيق الانتصار ومن ثم التحدث عن سياسية ما سيأتي في ما بعد، وكأنما هي عبارة عن عملية تسلسلية، وهو ما يبدو كأنما ليست هناك خطة سياسية مطلقاً، ودعنا نطلق على ذلك نهج «المهمة اكتملت». النجاح العسكري الأميركي ضد «داعش» الآن من شأنه أن يخلق نوعاً من العنف في العراق، نظراً إلى عدم وجود عدو مشترك يوحد الطوائف المختلفة في البلاد، ويجب على إدارة ترامب تقديم استراتيجية سياسية الآن لتجنب تكرار أخطاء الماضي.

إميل سيمبسون باحث بمؤسسة هارفارد سوسايتي، ضابط سابق بالجيش البريطاني

تويتر