فيما باتت السياسة الأميركية يغلب عليها التردد والغموض

روسيا تقدّم نفسها بديلاً مـــــوثوقاً في الشرق الأوسط

صورة

قبل أيام، التقى وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، بالرئيس السوري، بشار الأسد، في دمشق، ووفقاً للسفارة الروسية في دمشق، فإن الطرفين ناقشا التعاون المشترك ضد تنظيم «داعش». ويأتي هذا في أعقاب وصول الجيش السوري إلى مدينة دير الزور، على نهر الفرات في شرق سورية، وكسر الحصار الذي دام قرابة عامين ونصف العام. وقد لعبت روسيا دوراً رئيساً في نجاح الجيش السوري، ما يعني بشكل متزايد أن القوات السورية المدعومة من روسيا، تقترب من قوات سورية الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة.

وفي منتصف سبتمبر، أعلن التحالف الذي تقوده واشنطن أن غارة جوية روسية، شرق نهر الفرات، أسفرت عن إصابة عدد من عناصر قوات سورية الديمقراطية. ومع تقهقر التنظيم المتطرف، فإن الفراغ الذي تركه يتم ملؤه بمجموعات لها أجندات مختلفة، وذلك في وقت لاتزال سياسة واشنطن غير واضحة في شرق سورية. وهذا يؤدي إلى نفوذ إيراني أكبر عبر العراق وسورية، ويترك حلفاء الولايات المتحدة في الخليج والشرق الأوسط والقوات على الأرض في سورية، يتساءلون عما سيأتي بعد ذلك.

بعد أيام من قيام الجيش السوري، بمساعدة من القوات الجوية الروسية، بكسر حصار دير الزور، شنت قوات سورية الديمقراطية المدعومة من واشنطن، هجوماً للوصول إلى المدينة من الجانب الآخر لنهر الفرات. وذكرت شبكة الإعلام الكردية «رودو»، أن القوات وصلت إلى المنطقة الصناعية في المدينة يوم 10 من سبتمبر. ودير الزور ذات أهمية استراتيجية لأنها أكبر مدينة في محافظة دير الزور التي تمتد على جانبي نهر الفرات إلى الحدود العراقية. وقد توسع تنظيم «داعش» على طول هذه المنطقة في عام 2014، واستخدمها قناةً لدخول محافظة الأنبار ذات الأغلبية السنية في العراق، عبر معبر البوكمال. ومع تقلص خريطة المناطق التي يسيطر عليها التنظيم المتطرف، يوماً بعد يوم، ومع قرب سقوط عاصمته الرقة، فإن الولايات المتحدة وروسيا وحلفاءهما، يشهدون المرحلة التالية من الصراع في سورية والعراق.

روسيا حاضرة في كل مكان

باتت روسيا حاضرة في كل مكان تقريباً بالشرق الأوسط، وتتصدر موسكو الجهود المبذولة لإخماد الحرب الأهلية في سورية، وإقامة مناطق «خفض التوتر» بين مختلف الفصائل وداعميها الخارجيين. كما أقحمت روسيا نفسها في القضية الكردية المتقلبة، سواء في ما يتعلق بالمناطق الكردية السورية المناوئة لتركيا، أو مسألة الوضع النهائي بين كردستان العراق والحكومة في بغداد. وقد لعبت موسكو دوراً رئيساً في الحفاظ على «الهلال الشيعي» الإيراني - العراقي - السوري، لكنها تشارك أيضاً في محادثات مباشرة مع السعودية ودول الخليج حول كيفية الحفاظ على توازن القوى الهش في المنطقة. ولدى مصر وإسرائيل الآن خطوط اتصال خاصة مع الكرملين، وبات الرئيس، فلاديمير بوتين، في نظر الكثيرين بالمنطقة، رجل دولة أكثر موثوقية يفعل ما يقوله ويحترم التزاماته. ويبدو أن هذا التقييم يتقاسمه الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الذي يبدو مستعداً لإقامة محور استراتيجي جديد مع روسيا حول الطاقة والأمن في أوراسيا، ومستقبل الشرق الأوسط. وقد استضافت موسكو اجتماعات الفصائل الليبية المختلفة، والأحزاب السياسية الفلسطينية، والممثلين الأكراد، وأعضاء المعارضة السورية، ويقوم زعماء الشرق الأوسط بشكل منتظم بزيارات إلى موسكو للقاء زعيم الكرملين.

يبدو أن روسيا تعود بقوة، ومن الخطأ عرض هذه التطورات في ضوء تجربة الحرب الباردة. روسيا المعاصرة ليست الاتحاد السوفييتي، إذ لم يعد الكرملين مهتماً بنشر أيديولوجية معينة ولا يسعى إلى فرض أي خيار ثنائي على دول المنطقة «للاختيار» بين موسكو وواشنطن. ويرجع ذلك إلى أن روسيا ليست مهتمة بتحمل فواتير ضخمة للأمن والمساعدة الاقتصادية. وبدلاً من ذلك فإن النهج الروسي في القرن الـ21 لا يتمثل في إبعاد الولايات المتحدة التي لاتزال تقوم بتمويل جزء كبير من تكاليف الأمن الإقليمي، ولكنها تعمل كـ«رهان تحوط» لأنظمة المنطقة لتحقيق التوازن بين الخيارات الأميركية، وتتيح لها خيارات للتخلص من شروط واشنطن. ويقدم الكرملين نفسه وسيطاً أكثر موثوقية مقارنة بأميركا، كما يوفر معدات وقدرات تتردد واشنطن في تقديمها. وهذا بدوره يجعل خصوم الحرب الباردة السابقين في المنطقة - خصوصاً تركيا ومصر وإسرائيل - أكثر انفتاحاً على إقامة علاقة جديدة مع الكرملين.

يقول مدير مركز روبين للبحوث في الشؤون الدولية، جوناثان سباير، إن الوضع الحالي يثير تساؤلات مهمة، لاسيما في ما يتعلق بالدعم الإيراني للنظام السوري، موضحاً «نحن نعرف ما يفعله النظام السوري، سعياً لهزيمة داعش وإعادة تأكيد سيطرته، والإيرانيون يريدون معبر البوكمال والممر البري المحيط به»، وتساعد السيطرة على المعبر إيران في تحقيق هدفها المتمثل في ربط الميليشيات الشيعية التي تدعمها في العراق مع «حزب الله» في لبنان عبر حليفتها السورية. وأضاف الخبير السياسي «إننا نعرف ما يريده الإيرانيون، وماذا تريد قوات سورية الديمقراطية، أما في ما يخص الأميركيين فهم أقل وضوحاً»، ويعتقد سباير أنه لا توجد استراتيجية أميركية شاملة أخرى غير «حاجة داعش إلى التدمير»، ويرى الإيرانيون في العراق وسورية ولبنان مساحة واحدة يلعبون فيها لعبة استراتيجية عبر منطقة الشرق الأوسط، وفقاً للخبير.

وهذا هو السبب في أن «حزب الله» يقاتل في سورية، وتم رصد رجاله في العراق، وكذلك السبب وراء مشاركة الميليشيات العراقية في سورية. وعلى النقيض من ذلك، ترى الولايات المتحدة كل بلد بشكل مختلف، فهي تعمل مع حكومة رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، في بغداد ضد «داعش»، وتنسق مع قوات سورية الديمقراطية، كما تتعاون مع حكومة رئيس الوزراء اللبناني، سعد الحريري، في بيروت. ويقول سباير إن «تسليم إدارة الملف السوري إلى الروس» سينتهي بتسليم سورية إلى خصوم أميركا.

تجنب المواجهة

ويشير محلل الشؤون الكردية، فلاديمير فان ويلغنبيرغ، الموجود حالياً في سورية، إلى أن الروس والأميركيين سعوا إلى «تجنب المواجهة» مع اقتراب القوات المتحالفة، مع كل طرف، من بعضها بعضاً. وقال المحلل الذي يتابع عن كثب ما يجري على الجبهة التي تقاتل بها قوات سورية الديمقراطية: «لا أعتقد أن استراتيجية قوات سورية الديمقراطية ترتكز على دخول مدينة دير الزور، ربما بعض الأحياء، لكن المدينة هي للنظام»، ويعتقد الخبير أن قوات سورية الديمقراطية تريد أن تأخذ الريف، ويبدو أن الأميركيين الذين يدعمونها يريدون انتقال هذه القوات في اتجاه الحدود العراقية، «يبدو أن هذه هي الخطة، وهذا يرسم خطاً مع النظام السوري، لكن الإيرانيين لا يفضلون ذلك، وستقوم موسكو بالتنسيق مع واشنطن من أجل هذه الخطة»، والسؤال الرئيس هو ما إذا كانت الولايات المتحدة ستقول صراحة إن سياستها هي احتواء النفوذ الإيراني ولفت الانتباه إلى المنطقة الحدودية مكاناً للقيام بذلك.

العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا في سورية تسير حالياً وفق آلية «خفض التوتر» التي جنبت القوات الجوية الاصطدام، مرات عديدة. وفي أواخر أغسطس سُمح لقافلة بها مئات من مقاتلي «داعش» بمغادرة منطقة القلمون على الحدود اللبنانية - السورية، بموجب اتفاق مع ميليشيا «حزب الله». وكان من المفترض أن يعبروا إلى البوكمال، لأن النظام السوري كان يستعد لهجوم دير الزور، ولم يكن يريد أن يلاحق مقاتلي التنظيم مرة أخرى. وتحت ضغط من حكومة بغداد، التي لم ترغب في عبور قافلة المتشددين للحدود، استهدف التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة طريقاً لمنع تنقل القافلة. وفي بيان قال التحالف إنه «تواصل مع الروس ليبلغوا النظام السوري بأن التحالف لن يتغاضى عن مقاتلي داعش الذين يتجهون شرقا إلى الحدود العراقية»، وعلى الرغم من أن العمليات الجوية عبرت نهر الفرات، يؤكد التحالف باستمرار أنه «ليس في مواجهة مع النظام السوري أو أي من حلفائه في مكافحة داعش».

تصعيد الموقف

يبدو أن الروس يصعّدون موقفهم تجاه الدور الأميركي في سورية. وكان وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، قد صرح في وقت سابق بأن «أي شخص موجود على الأرض السورية أو في المجال الجوي السوري، من دون موافقة دمشق - بما في ذلك الولايات المتحدة - ينتهك القانون الدولي». وفي أوائل سبتمبر، أعلنت «سبوتنيك نيوز»، التي تعد قريبة من الحكومة الروسية، أن «الطائرات الأميركية أخلت 20 من قادة داعش من دير الزور». وكان من الواضح أن هذا التضليل كان مصمماً لتقديم الولايات المتحدة لاعباً سيئاً في سورية. وفي 11 سبتمبر، ورداً على ادعاءات بأن أميركا قد قصفت الجيش السوري، قال المتحدث باسم القوة العسكرية المشتركة «العزم الصلب»، العقيد رايان ديلون، إن الشائعات التي روجت «كاذبة»، وإن «معركتنا ضد داعش، وقد كانت هناك 22 ضربة (للتنظيم) هذا الأسبوع».

على الرغم من الشائعات والحرب الكلامية الهادئة، هناك أيضاً علامات على أن موسكو ترى دور قوات سورية الديمقراطية بشكل ودي، ففي منتصف سبتمبر قال الجيش الروسي إن 85% من سورية قد حُررت من الأعداء، في إشارة إلى أن مناطق سيطرة قوات سورية الديمقراطية لا ينظر إليها على أنها تحت سيطرة العدو، وقد لعب المراقبون العسكريون الروس دوراً في أماكن مثل عفرين التي تسيطر عليها هذه القوات، حيث لا توجد الولايات المتحدة.

وهذا يترك سؤالاً رئيساً حول ما ستكون عليه السياسة الأميركية، في الوقت الذي يسعى حلفاؤها إلى تحرير المزيد من المناطق على طول نهر الفرات باتجاه الحدود العراقية. ويخضع الجانب الآخر من الحدود العراقية حالياً لسيطرة الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، التي يطلق عليها «الحشد الشعبي»، وهي جزء من قوات الأمن العراقية. وتريد أن تزحف للاستيلاء على «القاسم» انطلاقاً من البوكمال. كما ترغب الميليشيات الشيعية في الارتباط مع قوات النظام السوري وميليشياته المدعومة من إيران. ولاتزال الولايات المتحدة ملتزمة فقط بهزيمة «داعش»، وفي العراق عملت القوات الأميركية، التي تساعد العراقيين، إلى جانب الميليشيات الشيعية، في الحملات الأخيرة مثل الحملة على تلعفر. ومع ذلك فإن سياسة التحالف الرسمية في العراق ليست العمل مع الميليشيات، ويقتصر التعاون على الجيش العراقي والشرطة الاتحادية والوحدات الأخرى.

ما تقرر الولايات المتحدة وحلفاؤها (قوات سورية الديمقراطية) القيام به، في الأشهر المقبلة بسورية، سيبدأ على الأرجح في تحديد المرحلة المقبلة من مستقبل الشرق الأوسط. إذا شرعت واشنطن في رسم سياسة احتواء النفوذ الإيراني فيمكنها أن تفعل ذلك مع شركائها، وإذا كانت أميركا موجودة هناك فقط لهزيمة تنظيم داعش، فإن استراتيجيتها بعد نهاية التنظيم في العراق وسورية تترك شركاءها أمام مستقبل غير واضح، وستكون لذلك تداعيات تمتد إلى ما وراء نهر الفرات؛ فهو يؤثر في كيفية رؤية حلفاء واشنطن إلى الالتزامات والسياسات الأميركية.

تويتر