Emarat Alyoum

الدرس الهندي في بناء القوة الناعمة في العالم

التاريخ:: 12 سبتمبر 2017
المصدر: عن مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة - أبوظبي
الدرس الهندي في بناء القوة الناعمة في العالم

رسّخ عالم السياسة الأميركي جوزيف ناي، في بداية التسعينات من القرن المنصرم، عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، مفهوم «القوة الناعمة»؛ للتأكيد على أن الولايات المتحدة الأميركية لاتزال هي القوة المهيمنة والمسيطرة على النظام الدولي، بامتلاكها نوعاً آخر من القوة غير العسكرية يقوم على الجذب والإقناع.

ومع ذيوع المفهوم بين الدوائر الأكاديمية وصناع القرار حول العالم، أضحى المفهوم مكوِّناً مهماً للسياسة الخارجية للدول، وبدأت الدول الغربية تتبنى هذا المفهوم، بما يتوافق مع مصالح وأهداف هذه الدول، وإمكاناتها المتاحة لتنفيذ سياساتها الخارجية، بعيداً عن الاستخدام القسري للقوة.

ولم يعد استخدام القوة الناعمة في تنفيذ السياسة الخارجية للدولة مقتصراً على الولايات المتحدة والدول الغربية، بل اتجهت الدول العربية إلى استخدامه أيضاً وتضمينه في سياساتها الخارجية، للحفاظ على مصالحها ونفوذها في منطقة تشهد منافسة قوية من قوى دولية وإقليمية، تمتلك من مصادر القوة الصلدة ما يفوق قوتها.

ولإيمان دولة الإمارات بأهمية القوة الناعمة للدولة في تحسين صورتها ومكانتها الدولية، وكونها إحدى الأدوات لتحقيق أهداف سياستها الخارجية إلى جانب القوة الصلدة؛ شرعت في تشكيل «مجلس القوة الناعمة»، الذي يهدف إلى تعزيز سمعة الدولة إقليميّاً وعالميّاً، وترسيخ احترامها ومحبتها بين شعوب العالم، ويختص برسم السياسة العامة، واستراتيجية القوة الناعمة للدولة.

ومع التنافس بين الدول في جذب الاستثمارات والسياحة الدولية، شرعت العديد من الدول في استخدام الأبعاد الثقافية، مثل الفن (أحد مكونات القوة الناعمة)، في دعم اقتصاداتها الوطنية، والترويج للدولة، وكأداة للتأثير في توجهات الشعوب.

فعلى سبيل المثال، حظيت بورتوريكو باهتمام عالمي واسع النطاق، بالإضافة إلى تزايد معدلات تدفق السياح إليها لزيارة المعالم السياحية للدولة، التي أعلنت في السابق إفلاسها، بعد عرض فيديو أغنية «ديسباسيتو» الذي حقق انتشاراً عالميّاً، بعد أن وصل عدد مشاهداتها على موقع «يوتيوب» إلى 2.6 مليار مشاهدة.

ومع نجاح الأعمال الفنية الدرامية والسينمائية في الانتشار، وتخطّي الحدود الجغرافية للدول، وعوامل اللغة، واختلاف العادات والتقاليد بين الشعوب؛ وظّفتها العديد من الدول لخدمة أهداف سياساتها الخارجية، وتصحيح صورتها النمطية، وتوجيه رسائل للخارج، ولمواجهة العزلة المفروضة عليها دوليّاً، مثل إيران، حيث حققت أفلامها جوائز دولية أعادت انخراط طهران في الشؤون الدولية والإقليمية.

وقد أدى تصاعد التنظيم والاحترافية والعالمية في الممارسات الرياضية، إلى اعتماد عدد كبير من دول العالم على الرياضة، ضمن أدوات تفعيل قوتها الناعمة، وبناء صور ذهنية إيجابية عنها لتعزيز أرصدة قوتها الصلدة، والترويج للنموذج الجاذب الذي تسعى لتسويقه، واستعراض مركزية مكانتها على المستوى العالمي. ولهذا، تصاعدت اتجاهات تسييس الرياضة.

وبناءً عليه، فإن هذا الملف الذي يتضمن تحليلات وتقديرات، يناقش كيف تُعد القوة الناعمة للدول مصدراً مهماً لتعزيز صورتها الذهنية دوليّاً، ولتحقيق منافع اقتصادية وسياسية تفوق تلك التي تحققها القوة الصلدة. كما يقدم نماذج للدول التي نجحت في توظيف القوة الناعمة باعتبارها إحدى أدوات سياستها الخارجية، وتحسين صورتها، وتعزيز مكانتها وموقعها الدولي.


أدى تصاعد الاعتماد على مصادر القوة الناعمة في العلاقات الدولية إلى تركيز عدد كبير من دول العالم على إعادة اكتشاف التاريخ والثقافة المحلية، والخصائص القومية الفريدة لتعزيز مقومات القوة الناعمة لديها، وصناعة نموذج ذي جاذبية للدولة يمكن الترويج له عالمياً.

وفي هذا الإطار نشرت مجلة «Palgrave Communications» دراسة بعنوان «من قوة كامنة إلى قوة ناعمة قوية.. تطور الدبلوماسية الثقافية الهندية»، قام بإعدادها «ديبيداتا أوروبيندا ماهاباترا» الباحث بمركز السلام والديمقراطية والتنمية التابع لجامعة ماساتشوستس الأميركية. وتسعى هذه الدراسة لرصد خصائص القوة الناعمة الهندية، وكيف يتم استخدامها كإحدى أدوات السياسة الخارجية الهندية.

الهند.. من الإقليمية إلى العالمية

ثمة إدراك من جميع القادة الهنود منذ تأسيس الدولة الحديثة لدور القوة الناعمة في تعزيز العلاقات مع الدول؛ إلا أنها لم تحظَ بهذا القدر من التأثير إلا في بداية التسعينات مع العولمة وانتشار أدوات التكنولوجيا الحديثة، واتجاه الهند إلى تعزيز العلاقات مع دول جنوب شرق آسيا.

قامت الهند منذ مطلع الأربعينات بتأسيس العديد من المراكز الثقافية العابرة للحدود، مثل المجلس الهندي للعلاقات الثقافية (ICCR)، والمجلس الهندي للشؤون العالمية (ICWA)، وقد تم تأسيس الأول في عام 1950 لتقوية العلاقات الثقافية بين الهند والدول الأخرى، ويقدر عدد فروعه في الوقت الحالي بنحو 35 مركزاً في دول مختلفة من العالم، ويخطط المجلس لإنشاء المزيد من الفروع في الولايات المتحدة، وفرنسا، وإيطاليا، والكويت.

فيما تأسس المجلس الهندي للشؤون العالمية عام 1943 بهدف تقوية العلاقات بين الهند والدول الأخرى عن طريق التبادل الطلابي، والأنشطة والمحاضرات المشتركة، وتبادل الأفكار، وقد تم تصنيفه على أنه من أكبر المنظمات الأكاديمية العالمية، وذلك في عام 2015 من قبل الأمم المتحدة. وتمتلك هذه المنظمة في الوقت الحالي 38 شراكة مع منظمات أكاديمية من دول مختلفة في العالم.

إدراك مبكر

ومما سبق يتضح أنه كان هناك إدراك من كل القادة الهنود منذ تأسيس الدولة الحديثة لدور القوة الناعمة في تعزيز العلاقات مع الدول، إلا أنها لم تحظَ بهذا القدر من التأثير إلا في بداية التسعينات مع العولمة وانتشار أدوات التكنولوجيا الحديثة، واتجاه الهند إلى تبني سياسة تهدف إلى تعزيز العلاقات مع دول جنوب شرق آسيا، وعقد معاهدات اقتصادية وتجارية معها، إلا أنها لم تنجح في تحقيق هذا الهدف بشكل كامل، وهو ما دفعها للتفكير في توظيف قوتها الناعمة للتأثير على الدول المجاورة.

وأسهمت مواقع التواصل الاجتماعي في انتشارٍ أكبر للثقافة الهندية؛ فتم إنشاء صفحة لوزارة الخارجية الهندية على «فيس بوك»، وقناة على «يوتيوب»، بالإضافة إلى إنشاء صفحة على «تويتر» في عام 2010.

كما يمتلك رئيس الوزراء الهندي ناريندا مودي صفحة على «تويتر» يقدر عدد متابعيها بنحو 21.6 مليون متابع، وقُدر عدد التغريدات التي كتبها منذ عام 2009 بنحو 12 ألف تغريدة، ووصل عدد متابعي وزيرة الخارجية الهندية سوشما سوراج على «تويتر» إلى نحو 5.47 ملايين متابع.

وترى الدراسة أن الهند استطاعت مع الوقت بلورة ملامح واضحة لقوتها الناعمة، تتمثل في التواصل مع الجاليات الهندية في الخارج، والعمل على المشاركة في برامج التنمية مع مؤسسات ودول أجنبية، واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي بكثافة للتواصل مع الأجيال الجديدة ومواطنيها المقيمين خارج الدولة، ويسهم كل هذا في خلق ما يعرف بالعلامة المميزة للدولة (Nation Brand).

ركائز النموذج الهندي

تشير الدراسة إلى أن حالة التعددية الدينية السائدة في الهند تُعد أحد أهم مصادر قوتها الناعمة، فتعايش جميع هذه الأديان معاً في حالة من السلام، جعلها تتحول إلى نموذج جذاب في ظل تفجر الصراعات الدينية في العديد من أنحاء العالم، يضاف إلى هذا قدرة الهند على إضفاء هويتها في المجالات كافة التي تقوم بالدخول فيها، وهو ما يمكن إيضاحه في ما يلي:

1- النموذج الديمقراطي

استطاعت الهند أن تؤكد أنها دولة ديمقراطية على الرغم من أن الدول المحيطة بها قد شهدت العديد من الصراعات حول السلطة، فعلى الرغم من أنها تعاني ارتفاع نسبة الفقر، بالإضافة إلى العديد من المشكلات الاقتصادية، فإنها تحظى بانتخابات دورية سلمية يتم من خلالها تداول السلطة.

وقد حظيت انتخابات 2014 بنسبة مشاركة عالية، وهو ما دفع صحيفة «واشنطن بوست» إلى القول: «إن عام 2014 قد أصبح أعظم الأعوام في تاريخ الديمقراطية بفضل الهند».

2- رياضة اليوغا

تعود أصول هذه الرياضة إلى الهند، وقد أسهمت في نقل الثقافة الهندية إلى العديد من دول العالم، وأدى انتشار هذه الرياضة إلى بناء صورة إيجابية عن الهند، خصوصاً أن فلسفتها تقوم على التأمل والزهد والتحرر من الارتباط بالماديات، وهو ما يؤدي إلى رفع قدرة الإنسان على التفكير بحرية ودون قيود.

وقد قامت الأمم المتحدة بجعل يوم 21 يونيو من كل عام «اليوم العالمي لليوغا»، لاسيما أن عدد من يمارسون هذه الرياضة قد وصل إلى نحو 125 مليون شخص في العالم.

كما استضافت دبي في عام 2016 معلم اليوغا الهندي الشهير بابا رامديف في فعالية كبيرة شارك فيها ما يُقدر بنحو 100 ألف شخص، وهو ما جعلها تسجل ضمن مؤسسة «غينيس» للأرقام القياسية.

كذلك تم توظيف اليوغا كوسيلة لحل الصراعات، فقد قام معلم اليوغا الهندي الشهير سري سري رافي شانكار بالسفر إلى دول الصراعات، مثل العراق، وكوت ديفوار، والكاميرون، وسريلانكا، للدعوة إلى مبادئ اليوغا من سلام، وزهد، وتأمل، والدعوة إلى الحوار البناء، والانفتاح على أفكار الآخرين.

3- الطب الهندي

ونتيجة لانتشار اليوغا تمكن الطب الهندي «الأيورفيدا» أو الذي يعرف بعلم الحياة، من أن يقتحم دول العالم المتقدم تدريجياً بفضل علاقته الوثيقة برياضة اليوغا، ويُعد هذا النوع من العلاج من أنواع الطب البديل، ويعتمد بشكل رئيس على النباتات الطبيعية.

وتستغرق دراسة هذا المجال في الهند نحو خمس سنوات، وعلى الرغم من التشكيك في فاعليته من قبل البعض فإن عدد المراكز العلاجية التي تتبع نظام الأيورفيدا قد وصل إلى نحو 2000 مركز في العالم، منها 100 مركز في الولايات المتحدة، الأمر الذي يدل على تطور أدوات القوة الناعمة الهندية، ووصولها إلى كل دول العالم، بما فيها تلك الدول المتقدمة.

4- صناعة السينما

انتشرت السينما الهندية (بوليوود) في العديد من دول العالم، خصوصاً دول الشرق الأوسط، ويشير الكتاب إلى أمثلة عدة على انتشار الأفلام الهندية بشكل كبير رغم ميزانيتها المحدودة في بعض الأحيان، ففي سورية كان يتم رفع صور النجم الهندي الشهير أميتاب باتشان في الميادين العامة بحجم صور الرئيس بشار الأسد.

5- المطبخ الهندي

استطاعت الأكلات الهندية أن تحظى بانتشار واسع النطاق في العديد من دول العالم، ويوجد في الوقت الحالي العديد من البرامج التلفزيونية المتخصصة في تقديم طرق إعداد الطعام الهندي.

وقد أشار تقرير صادر عام 2003 إلى أن عدد المطاعم الهندية في المملكة المتحدة وحدها قد وصل إلى نحو 9000 مطعم هندي يعمل بها ما يقرب من 70 ألف موظف، برأسمال بلغ في ذلك الوقت 3.2 مليارات يورو، ويرتاد هذه المطاعم ما يعادل 2.5 مليون شخص أسبوعياً.

دبلوماسية الثقافة والتنمية

حرص ناريندا مودي مع توليه منصب رئيس الوزراء عام 2014 على توظيف أدوات القوة الناعمة الهندية بطريقة مختلفة عن سابقيه؛ فقد حرص على التواصل مع الجاليات الهندية من خلال زياراته الخارجية.

واستضاف العديد من قادة الدول لحضور المناسبات الهندية الشعبية والدينية، فمثلاً قام في ديسمبر 2015 بدعوة رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي لحضور احتفالات دينية هندوسية، كما أشار أكثر من مرة إلى الثقافة والتقاليد الهندية في خطاباته.

وفي سبتمبر 2014، قام بإطلاق مبادرة «صنع في الهند» لنشر المنتجات الهندية في العالم، وتعزيز ثقة الدول الصديقة في الهند، وقدرتها على التصنيع، وتحقيق نمو اقتصادي، وذلك تحت شعار «صنع في الهند، ليس مجرد شعار، أو علامة تجارية، بل حركة قومية»، وقام بزيارة العديد من الدول لنشر هذه الحملة.

كما تم توظيف المناسبات لتصدير صورة إلى العالم تؤكد احترام التعددية، والاختلاف، وقبول الآخر في الهند، ففي عام 2015 قام مودي بالاحتفال بيوم اليوغا العالمي في واحد من أكبر ميادين الهند، وقُدر عدد الذين شاركوا في الاحتفال بما يزيد على 35 ألف شخص ينتمون إلى 84 جنسية مختلفة.

ويرتبط ذلك بتصاعد تقديم الهند العديد من المساعدات الاقتصادية والدعم التقني للدول الصغيرة؛ فمثلا قام مودي خلال زيارته لجمهورية جزر فيجي في نوفمبر 2014 بتقديم منحة مالية قدرها خمسة ملايين دولار لدعم القرى الصغيرة والصناعات المتوسطة، وأعلن خلال هذه الزيارة عن إنشاء صندوق للدعم التقني والتدريب لمجموعة من الدول، منها فيجي، وجزر كوك، وجزر سليمان، وغيرها. ولم يقم فقط بالتواصل مع الدول المجاورة، فقد قام بزيارة مجموعة من الدول الإفريقية في يوليو 2016، هي: موزمبيق، وجنوب إفريقيا، وتنزانيا، وكينيا، وقدم مساعدات مالية لإعادة إعمار أفغانستان بما يقدر بنحو 290 مليون دولار لبناء سد الصداقة الهندي الأفغاني.

للإطلاع على الموضوع كاملا يرجى الضغط على هذا الرابط.